محمود الرحبي
محمود الرحبي
أعمدة

جينالوجيا القصة : اللغة ( من النحوي إلى الوظيفي)

24 مارس 2021
24 مارس 2021

محمود الرحبي

اللغة عنصر أساس في الأدب، لذلك ظل سؤال اللغة مفتوحا وراهنيا وعصيا عن كل تحديد نهائي. وهي في بعدها الوظيفي تنفلت من أن تكون مجرد غلاف شكلي توصيلي عابر. فإن كانت اللغة في الكتابة السيارة ( أو نص القراءة) يمكن أن تعتبر وسيلة توصيلية، هي في الأدب – والقصة القصيرة نوع من أنواع هذا الأدب – تأخذ بعدا وظيفيا. إنها تسري في المادة المكتوبة سريان الدم في الشرايين. تتحول في الأدب إلى سكن وإقامة دائمة. كما أن سؤال اللغة لايتوقف عند نحوها. الجانب التركيبي يخرج اللغة من وظيفتها إلى هيئتها الجسمانية. لأن النحو والقواعد هي علوم لضبط الهيئة الصحيحة واللائقة، ويظل هذا الضبط عاما وشكليا ويتساوى في لغة الأدب وغيرها. وفي حالة الوقوع في فخاخ اللغة من هذا المستوى القاعدي من قبل كاتب القصة، يمكن تقويم ذلك بسهولة عن طريق المختص النحوي. على أن لغة الأدب وهي تعبر من النحوي إلى الوظيفي، تصارع من أجل التقيد بقوانين العلم ( النحو كأحد علوم اللغة) ويمكن أن يأتي هذا التقيد لاحقا، مع المراجعات المتكررة، سواء من الكاتب نفسه أو من قبل محرر محايد.

تكون اللغة بذلك متجاورة في الذهن مع الأفكار، أشبه بالأنفاس الخفية التي تدفع كلام الذهن لتحوله إلى كلمات تتحد لاحقا – مع الكتابة- بالمعاني. وإذا كانت العلاقة بين الكلمات ومعانيها اعتباطية ( كما يقول السيميائيون) تكون في القصة القصيرة وظيفية، لتذهب بالتصوير إلى أبعد من المعاني المحددة. سنجد في أحيان كثيرة أن اللغة في القصة مكتفية بنفسها،وأن معانيها متعددة، أو مغلقة، تحتفظ بالمعنى أو جزء منه، كما أنه يصعب تقيدها بذلك المعنى المباشر أو النهائي، تظل معاني اللغة في الأدب تأويلية، وخاصة في حالة أن الكاتب ارتضى بها ( أي اللغة) سكنا وإقامة دائمة وخلاصا . نعبر عن رحلة صعود جبلية ( الهايكنج) قصصيا. سنكون هنا خلف المتسلق الوحيد. اللغة في هذه الحالة صامتة ولاتبحث عن معنى مباشر،إنها باختصار لاتعبر عن شيء محدد. هي أشبه بكاميرا تلتقط ولاتتحدث. الصورة هي من يقوم بالبحث عن كلمات ومعان لها. لذلك لايمكن أن تقرأ الصورة قراءة واحدة. إن صورة المتسلق الجبلي عبر الكلمات تشبه صورته فوتوغرافيا من الخلف من جانب واحد. شيء ظاهر وباقي المكونات يستلم التأويل زمامها. في هذه الحالة يكمن الحديث عن معنى متلاش ينطلق من القاعدة ليلتقي ويشتبك بالأفق. ينطلق من الأثر ولا يكون قاموسه اللغوي عبر المعاني المحددة. لذلك اللغة في الأدب بصورة عامة والقصة القصيرة بصورة خاصة، تصنع نحوها الخاص. تنطلق اللغة في كتابة القصة من المتعارف عليه في كل خطاب،ولكنه انطلاق بغرض التجاوز، على نقيض لغة الصحافة، ( وأمثل بلغة الصحافة بغرض التقريب فقط، وذلك لأنها لغة لا تقبل المراوغة) وهذا المتعارف عليه عادة هو متعارف لغوي تركيبي. تحترم لغة القصة القصيرة هذا العرف وتلتزم به في كامل حدوده. ولكنها فقط لكي توقع حضورها بين الأجناس. فالقواعد الشكلية تجمع كل أنواع الكتابة سواء في الجنس الواحد (كالسرد مثلا) أو حتى في مختلف الأجناس بتعددها ( سواء في نص الكتابة أو نص القراءة حسب تعريف رولاند بارت). فباستثناء أجناس الأدب، فإن اللغة لا تبتعد كثيرا – في جانبها الوظيفي – عن حلبة المعاني المحددة. في الدراسات النقدية مثلا يجب التعبير عن لغة واضحة المعالم ،سليمة المقاصد،وإلا فإن المعنى سيكون بعيدا والغرض المعبر عنه سينهار، و بالتالي لن يخرج القارىء بالفائدة المنشودة. بل إن بعض النقاد والدارسين، ينشدون التوضيح والتبسيط وأحيانا بأكثر من طريقة لكي يوصلوا المعنى المحدد دون لبس أو مواربة. في خضم ذلك تترك لغة القصة هذا الصراع جانبا، لأنها باختصار لاتبحث عن فوائد مباشرة وسهلة، تتركه لتحلق بعيدا هاربة في الفضاء في الفسيح. ورغم ذلك فسوف يلاحقها القارىء بشغف،متشبثا بكل ريشة تسقط منها في ذلك الطريق المحلق.