أفكار وآراء

الإعلام بين ضرورات التربية ومتطلبات التعليم

23 مارس 2021
23 مارس 2021

أ.د. حسني محمد نصر

يمثل مؤتمر «الاتصال الجماهيري في البيئة الرقمية بين ضرورات التربية الإعلامية ومتطلبات التعليم الإعلامي»، الذي انطلقت أعماله أمس الثلاثاء من مسقط، عبر بث مباشر على منصة زوم لجميع أنحاء العالم، حجر زاوية في البناء الوطني على جهود المجتمع الدولي، لوضع التربية الإعلامية موضعها المناسب في المجتمع وفي برامج التعليم بكل أنواعها، قبل الجامعي، والجامعي، والتعليم المستمر، مثلما يمثل، في الوقت ذاته، مراجعة باتت حتمية لبرامج تعليم الصحافة والإعلام في الجامعات والكليات العُمانية والعربية والعالمية.

المؤتمر الذي ينظمه قسم الإعلام بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس وتستمر أعماله حتى مساء غد الخميس جاء في وقته تماما، وهو وقت أزمة جائحة كورونا، التي أكدت للجميع أهمية التربية الإعلامية كوسيلة لتعامل آمن وفعال وصحي مع الرسائل الإعلامية، من جانب أفراد المجتمع، ومع هذه الأزمة التي جاوزت العام دون أن يصل العالم إلى حل نهائي لها، وكان لها آثارها وتداعياتها السلبية على جميع جوانب الحياة الإنسانية، والتي- أي الآثار والتداعيات- قد تستمر لأعوام قادمة. وباعتباره الأول على مستوى السلطنة الذي يناقش فلسفة ومفاهيم وقضايا التربية الإعلامية فإن المؤتمر يبنى على جهود سابقة للسلطنة في هذا المضمار، تمت معظمها عبر وزارة التربية والتعليم واللجنة الوطنية العُمانية للتربية والثقافة والعلوم. وجهود مجتمعية أخرى كان آخرها حملة «تمكن إعلاميا» التي أطلقت في نهاية العام الماضي بدعم من وزارة الثقافة والرياضة والشباب، وكانت تهدف- ضمن ما تهدف إليه- إلى تكوين جيل قادر على تحليل الرسائل التي يتلقاها من وسائل الإعلام، وتعزيز محو الأمية الإعلامية، وتضمنت منتدى حول التربية الإعلامية، وبمشاركة عدد من الإعلاميين والأكاديميين المختصين بالتربية الإعلامية من الدول العربية والخليجية. ومع ذلك، يبقى الجهد الأكبر في التربية الإعلامية في السلطنة ملقى على عاتق وزارة التربية والتعليم، وتحديدا دائرة الإعلام التربوي التي تعمل منذ سنوات على نشر الثقافة الإعلامية بين الطلاب والطالبات، وبين المعلمين والمعلمات والهيئات الإدارية بمختلف المدارس على مستوى السلطنة. والحقيقة إن هذه الدائرة كان وما زال لها النصيب الأكبر من الإسهام في التعريف بالإعلام التربوي في السلطنة، ونشر الثقافة الإعلامية بين جميع أطراف العملية التعليمية سواء من خلال الإصدارات التي كانت تأتي على رأسها مجلة التطوير التربوي الشهرية، التي لا ندري لماذا توقفت عن الصدور، أو من خلال الملاحق الصحفية المستمر بعضها حتى الآن، مثل خدمة ملحق نافذة تربوية، وهو ملحق صحفي تربوي طلابي نصف شهري تصدره الدائرة بهدف إبراز المساهمات والمشاركات، وتسليط الأضواء على المواهب الطلابية، ويصدر طيلة العام الدراسي، أو من خلال البرامج التلفزيونية والإذاعية، مثل برنامج مرايا تربوية وهو برنامج تليفزيوني أسبوعي يرصد القضايا التربوية ويناقشها ويحللها بوجود متخصصين ومسؤولين من دوائر ومديريات الوزارة، وبرنامج ملتقى التربية وهو برنامج إذاعي أسبوعي يقوم بعرض الأنشطة الطلابية المختلفة والالتقاء بالمواهب الطلابية. ولا يتوقف نشاط دائرة الإعلام التربوي بوزارة التربية والتعليم عند هذا الحد، ويشمل زيارات ميدانية لفرق الدائرة إلى مختلف المحافظات لنشر الوعي الإعلامي التربوي، ومتابعة المنسقين الإعلاميين في المدارس والمديريات التعليمية، وتزويدهم بالدورات التدريبية في جميع مجالات العمل الإعلامي، بالإضافة إلى تنظيم الدورات التدريبية الإعلامية تستهدف العاملين بحقل الإعلام التربوي. واقع الحال أن الإعلام التربوي رغم أهميته لا يمثل- في تقديري- سوى ذراع من أذرع التربية الإعلامية، وتقتصر جهوده على خدمة العملية التعليمية بأطرافها المختلفة في المقام الأول، فهو يخاطب جماهير محددة ولا يخاطب الجمهور العام، ولعل هذا ما يعيدنا إلى تأكيد أهمية متابعة مؤتمر جامعة السلطان قابوس الذي يجمع بين التربية والتعليم الإعلاميين، ويحاول رسم خارطة طريق لهما في ظل البيئة الإعلامية الرقمية المتغيرة باستمرار. إن التربية الإعلامية بمعناها الحديث تعني، وفقا لتعريفات قدمتها مؤتمرات علمية دولية سابقة، «التعامل مع جميع وسائل الإعلام وتمكين الأفراد من فهم الرسائل الإعلامية وإنتاجها واختيار الوسائل المناسبة لنشرها»، و»التعرف على مصادر المحتوى الإعلامي وأهدافه السياسية والاجتماعية والتجارية والثقافية والسياقات التي تم فيها، وكذلك إكساب أفراد المجتمع القدرة والمهارة اللازمة للتحليل النقدي للمنتجات الإعلامية». ففي العصر الرقمي لم يعد الأمر يقتصر على تمكين البشر من اختيار وتلقي وفهم ومعالجة واستيعاب المعلومات التي تتدفق عليهم ليل نهار من وسائل الإعلام المختلفة التقليدية والجديدة وعبر منصات النشر المتوازية والمدمجة، وإنما أصبح يشمل القدرة على الإسهام الفردي والجماعي في ثورة المعلومات عبر التمكن من إنتاج الأخبار والتقارير والصور والرسوم والمقاطع السمعية والبصرية ونشرها على المنصات الاجتماعية والإعلامية المتاحة. هنا يمكننا أن نميز بين نوعين من التربية الإعلامية هما التربية الإعلامية التقليدية وبين التربية الإعلامية الجديدة. الأولى كانت تقوم على فكرة محو الأمية الإعلامية، وزيادة قدرة الأفراد على تقويم ونقد المحتوى الإعلامي في وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية، أما الثانية فتقوم على فكرة محو الأمية الإعلامية الرقمية وفتح جميع منصات النشر لكل من لديه شيئا يريد أن يقوله للعالم، أو لديه القدرة على إنتاج رسالة إعلامية يريد أن ينقلها للآخرين. في التربية الإعلامية التقليدية كان كل التركيز ينصب على إكساب المواطنين مهارات التحليل النقدي للرسالة الإعلامية من خلال وضعها في سياقاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية مقارنتها بالرسائل الأخرى المشابهة وكشف الزيف والتضليل المحتمل أن يكون فيها، أما في التربية الإعلامية الجديدة فإن إكساب مهارات المشاركة في صنع المحتوى الإعلامي في عصر «المواطن الصحفي» أصبح مطلبا ملحا للجميع، حتى من وسائل الإعلام الجماهيرية الكبرى التي أصبحت تعتمد كثيرا على ما ينشره ويبثه المواطنون الصحفيون من أخبار وصور ومعلومات خاصة في الأحداث المفاجئة وفي أوقات الأزمات. لقد تغير العالم وتغيرت وسائل الإعلام وتغيرت بالتالي التربية الإعلامية، وأصبح من الضروري في عصر الأزمات الطارئة المتكررة، وعصر الحروب الإعلامية الناعمة بين الدول، وتعدد منصات النشر وتضارب معلوماتها، أن نهيئ أفراد المجتمع للتعامل الجاد التحليلي والنقدي مع وسائل الإعلام من جانب، وزيادة قدراتهم على إنتاج رسائلهم الخاصة ونشرها على هذه المنصات. في نفس الوقت الذي يجب علينا تطوير منظومات التعليم الإعلامي في أقسام وكليات الإعلام حتى تواكب التغيرات الكبيرة التي تشهدها البيئة الرقمية وبيئة التربية والتعليم الإعلامي في العالم. من هذا المنطلق يبدو مؤتمر التربية والتعليم الإعلامي الذي يواصل أعماله خلال هذه الأيام من جامعة السلطان قابوس الذي يجمع 20 متحدثا رئيسيا من كبار الباحثين في هذا المجال، و71 باحثا من أكثر من 20 دولة، مهمًا وواعدا للغاية، ليس فقط للباحثين وطلاب الإعلام في سلطنة عمان والعالم العربي، ولكن أيضا لكل فرد من أفراد المجتمع يطمح إلى فهم كيفية عمل وسائل الإعلام وتقويم رسائلها وأدائها، ومن ثم المشاركة في صنع ونشر وتداول رسائل إعلامية. لقد أصبحت مجتمعاتنا في حاجة ملحة لأن يتم تربيتها على وسائل الإعلام حتى يمكن ترشيد سلوكها واتجاهاتها ومعارفها الناتجة عن تأثيرات وسائل الإعلام سواء كانت تأثيرات مستهدفة أو غير مستهدفة، وسواء كانت قصيرة المدي أو تراكمية طويلة المدى