أفكار وآراء

إعادة التصدير لاستعادة دور الموانئ العمانية

22 مارس 2021
22 مارس 2021

د. عبدالملك بن عبدالله الهنائي*

يصف بعض المؤرخين عمان بأنها «دولة بحرية «maritime state»، ويقصد بالدولة البحرية تلك الدولة التي تقع على البحر وتعتمد عليه في مصالحها التجارية وأنشطتها السياسية والعسكرية. ومن الأمثلة التاريخية على الدول البحرية المدن الفينيقية والبندقية وجنوه، وكذلك اليونان التي ما زال اقتصادها يعتمد بشكل كبير على الملاحة والنقل البحري والأنشطة المرتبطة به.

وقد كانت صحار وقلهات وحاسك وغيرها من الموانئ التاريخية العمانية أمثلة لما كان يعرف في وقت من الأوقات بالموانئ التجارية entrepôt. ففي تلك الموانئ العمانية كانت تنتصب الصواري وترتفع أشرعة السفن مبحرة تحمل ما أنتجته أرض عمان، أو ما يعاد تصديره منها من منتجات بلدان أخرى. وفي تلك الموانئ أيضا كانت السفن تضع مراسيها محملة بالسلع والبضائع، سواء كانت للاستهلاك المحلي أو لتخزينها و إعادة تصديرها.

ورغم أن الأسطول التجاري العماني قد أصيب في مقتل عندما بدأت بريطانيا في استخدام السفن البخارية في المنطقة في القرن التاسع عشر، إلا أن مسقط احتفظت بمكانتها كواحدة من أهم موانئ بحر عمان والخليج العربي، وذلك حتى منتصف ستينيات القرن الماضي حين حلّت دبي مكانها بفضل تجارة الذهب، التي كانت مزدهرة بينها وبين الهند، وكذلك بسبب ضعف البنية الأساسية للموانئ العمانية وعدم تطويرها لسنين طويلة.

خلال الأربعين سنة الماضية عملت عمان على إقامة موانئ جديدة. فبعد ميناء السلطان قابوس الذي أنشئ في أوائل سبعينيات القرن الماضي أُنشئت موانئ صلالة وصحار والدقم. ومن أجل تحسين إدارة تلك الموانئ واستقطاب خطوط ملاحية إليها دخلت الحكومة في شراكات مع بعض من كبريات الشركات والموانئ في العالم، وهي شركة ميرسك الدنماركية في ميناء صلالة، وشركة ميناء روتردام من مملكة نذرلاند في ميناء صحار، وشركة ميناء أونتويرب البلجيكي في ميناء الدقم. كما أن الحوض الجاف، الذي يقع في ميناء الدقم كان في مراحله الأولى يدار من قِبل إحدى شركات مجموعة ديوو الكورية. وفي إطار الجهود للنهوض بقطاع النقل البحري وتنشيط قطاع التجارة أسست السلطنة قبل حوالي عشرين عامًا شركة عمان للنقل البحري، التي أصبحت تمتلك عددا من السفن لمختلف الأغراض التجارية. وأذكر بفخر أنه حين كنا نضع التصور الأولي للشركة في عام 2003 قلتُ لأحد الزملاء إننا اليوم نعيد إحياء الأسطول العماني الذي انتهى قبل مائة وخمسين عاما.

وإلى جانب تلك البُنى الأساسية وقعت السلطنة عددا من اتفاقيات النقل الدولي، سواء المتصلة بالنقل على الطرق البرية أو عبر الموانئ، كما شُكلت لجنة وطنية للتجارة والنقل من عدة جهات حكومية مع القطاع الخاص من أجل تحسين بيئة العمل في هذين القطاعين. وفي إطار تسهيل تخليص البضائع بقصد تصديرها أو استيرادها أدخلت الإدارة العامة للجمارك نظاما أدى إلى تسهيل إجراءات التصدير والاستيراد عبر الموانئ والمطارات والمنافذ البرية العمانية.

إن سلطنة عمان ليست دولة مغلقة عن البحار landlocked حتى تضطر إلى الاستيراد عبر دول أخرى، بل إنها تطل على بحار مفتوحة، وهي من أكثر الدول طولا للسواحل في المنطقة، وموانئها قريبة من خطوط الملاحة الدولية، كما أن البنى الأساسية والأنظمة الجمركية في الموانئ العمانية وصلت إلى مرحلة متقدمة، إلا أنها لم تستفد كما يجب من الأزمات والظروف الصعبة التي مرت ولا تزال تمر بها الملاحة في الخليج العربي وبحر عمان والتهديدات التي تتعرض لها الموانئ الواقعة خلف مضيق هرمز وحوله، وذلك منذ بدء الحرب الإيرانية العراقية في عام 1980. بل إن السلطنة لا تزال تعتمد في تجارتها الخارجية بدرجة كبيرة سواء في الاستيراد أو التصدير على غير موانئها.

تظهر آخر الإحصاءات التي نشرها المركز الوطني للإحصاء، وهي عن عام 2019 أن قيمة إجمالي واردات السلطنة من السلع والبضائع بلغت 9334.4 مليون ريال عماني، فيما بلغت قيمة الصادرات 14,896.4 مليون ريال، أما قيمة البضائع المعاد تصديرها فقد بلغت 1,464.2 مليون ريال. وقد بلغ إجمالي الواردات عبر الموانئ العمانية ما قيمته 5,039.4 مليون ريال عماني، وعبر المنافذ البرية ما قيمته 2,591.9 مليون ريال، أما الواردات عبر المطارات فقد بلغت قيمتها 1,406.8 مليون ريال. معنى هذا أن حوالي 45% من واردات السلطنة ما زال يأتي عبر المنافذ البرية، وهي في معظمها سلع جاءت من منشئها الأصلي عبر موانئ أخرى في دول مجلس التعاون.

إن الاستيراد عبر موانئ الدول الأخرى قد يكون له ما يبرره، فتكلفة الشحن تتأثر إلى حد كبير بحجم التجارة وقيمتها، وكلما زاد حجم الاستيراد وزادت قيمته قلت تكلفته. وحيث إن بعض موانئ دول المنطقة لا تستورد لأسواقها المحلية فقط وإنما أيضا لإعادة التصدير، وهو الأكثر أهمية لها، فإن ذلك يعطي التجار والمستوردين فيها قدرة تفاوضية لخفض تكاليف الشراء والشحن، لذلك فإن تكاليف الشحن إلى تلك الموانئ هي أقل منها إلى الموانئ العمانية، حيث إن أغلب الاستيراد إليها هو للسوق المحلي.

ولمعرفة أعمق لمدى اعتماد السلطنة في تجارتها الخارجية على موانئ الدول الأخرى في المنطقة، يجب النظر إلى بند إعادة التصدير الذي يشكل ما نسبته حوالي 6% من مجموع التجارة الخارجية للسلطنة، وهي نسبة منخفضة عند الأخذ بعين الاعتبار تاريخ عمان كدولة بحرية يعتمد نشاطها الاقتصادي على التجارة الخارجية. ومن أجل استعادة عمان لدورها التاريخي التجاري في المنطقة، فإنه يجب زيادة نسبة إعادة التصدير في تجارتها الخارجية، إذ لا يمكن استعادة ذلك الدور بالاعتماد على الاستيراد للسوق المحلي فقط لأنه سوق صغير نسبيا؛ لذلك فإنه لا بد من جهود متكاملة على الصعيدين الدبلوماسي والتجاري وبالتعاون مع القطاع الخاص للترويج للموانئ العمانية من أجل زيادة الشحن إليها وجعلها مراكز للتجارة العالمية في المنطقة. ومن أهم وسائل الترويج، بعد أن تخف القيود المفروضة بسبب جائحة كوفيد19، زيادة إقامة المعارض التجارية المتخصصة. ومن المفيد في الترويج توزيع إقامة تلك المعارض بين الموانئ والمراكز التجارية في السلطنة، مثل مسقط وصحار وصلالة والدقم. غير أنه لابد لنجاح تلك المعارض من تحفيز المشاركة فيها بتسهيل قدوم الشركات وأصحاب الأعمال من الخارج، سواء من حيث إصدار تأشيرات الدخول أو من حيث تخفيض تكاليف السفر والإقامة في الفنادق. ولا بد في ذلك من جهود منسقة بين الجهات المعنية بالمعارض وبين الطيران العماني والفنادق ودور الإقامة. إن إقامة المعارض وزيادة عدد المشاركين فيها من الخارج سينعكس إيجابيا على أسواق السلطنة بزيادة الاستيراد، ومن ثم زيادة إعادة التصدير، وهو ما سينشط من التجارة والشحن إلى الموانئ العمانية؛ لتستأنف دورها التاريخي المنشود.

** باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية