أفكار وآراء

جون ماجوفولي: جرافة الفساد

21 مارس 2021
21 مارس 2021

زاهر بن حارث المحروقي

في عام 2015، سمعتُ باسم الرئيس جون ماجوفولي لأول مرة، عندما شاهدتُ لقطاتٍ له وهو يشارك مواطنيه في حملةٍ أقيمت لتنظيف شوارع العاصمة التنزانية دار السلام، وقيل حينها إنه أراد بذلك أن يستغل موازنة حفلة تنصيبه لتنظيف العاصمة. خطر على بالي فورًا أنّ الرجل يقوم بحركة مسرحية فقط، حاله حال كثيرين ممن سبقوه من رؤساء دول العالم الثالث، الذين يشنون حملات شعواء ضد الفساد في خطاباتهم، وإذا هم يصبحون أكثر فسادًا فيما بعد. وبعد فترة شاهدتُه في لقطة تلفزيونية يتحدّث فيها عن الفساد المستشري في بلاده ويقول "إنّ الفساد يشبه الدُّمَّل في جسم الإنسان، وبسبب التأخر في استئصاله يمتلئ بالصديد. وأنا من سيقوم بوخز هذه الدمامل بالدبابيس"، وظلّ كثيرًا يشدد في خطاباته على القضاء على الفساد، حتى يوم وفاته على رأس عمله رئيسًا لتنزانيا يوم الأربعاء السابع عشر من مارس 2021.

من الخطوات الأولى التي اتخذها ماجوفولي بعد انتخابه، أنه شنّ حملة واسعة لمكافحة الفساد، بدأها بإقالة عدة مسؤولين بارزين، من بينهم رئيس جهاز مكافحة الفساد نفسه، ورئيس مصلحة الضرائب، ومسؤول بارز في السكك الحديدية، ورئيس هيئة الموانئ. وألغى الاحتفالات الرسمية في ذكرى يوم الاستقلال لكي يوفر موازنة الاحتفالات لمحاربة وباء الكوليرا المنتشر آنذاك. وخفّض أعضاء مجلس الوزراء من ثلاثين وزيرًا إلى تسعة عشر وزيرًا فقط. ولم يكن ذلك هو كلّ شيء، فقد حوّل شعار "من أين لك هذا؟" إلى واقع معيش، عندما طلب من جميع الوزراء الكشف عن أرصدتهم وممتلكاتهم، مع إقالة أيّ وزير لا يقبل ذلك أو يرفض التوقيع على "تعهد النزاهة".

ركز الرئيس ماجوفولي في إصلاحاته الإدارية على منع الازدواجية في المؤسسات الحكومية، فمنع جميع سفريات المسؤولين للخارج بغير ترخيص مباشر منه، "إذ عليهم أن يركزوا على الوضع الداخلي، أما السفراء فهم من عليهم أن يهتموا بها في الخارج". وما جعله ينجح في ذلك أنه كان القدوة فطبّق القانون على نفسه، فلم يسافر إلا سفرات قصيرة لدول الجوار لم تتعد ساعات، باستثناء رحلة واحدة لحضور مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية في أديس أبابا.

كان للراحل طريقةٌ خاصةٌ في إدارة أمور البلد؛ إذ كان له زياراتٌ ميدانية كثيرة لمحافظات تنزانيا كافة، فكان يلتقي بالمواطنين في لقاءات عامة يخطب فيهم ويتلقى شكاواهم، ويتخذ قرارات عاجلة لإنصاف المظلومين فورًا، تصل أحيانًا إلى عزل المخطئين، وأحيانًا يحيل المواضيع إلى التحقيق. وهناك من رأى أنّ هذه الطريقة في التعامل مع القضايا، فيها نوعٌ من التسرع، الأمر الذي أدى إلى انقسام الرأي العام المحلي حولها، ولكن الأمر المؤكد عند الجميع أنّ الراحل كان مع الفقراء والمستضعفين من شعبه. وأحبُّ أن أوضِّح للقارئ – إذا لاحظ نبرة إعجابي بالراحل - أنه أصبح عندي ما يُشبه الإدمان لمشاهدة فيديوهاته وهو يتحدّث مع مواطنيه، فهو صارمٌ في معاقبة الفاسدين.. رحيم بالمظلومين.. مع قفشاتٍ فكاهية لا تخفى، وبساطة لا تكلف فيها. ففي زيارته المفاجئة للمستشفى الرئيسي مثلا، وجد المرضى يفترشون الأرض، والأجهزة الطبية متعطلة، فعزل جميع المسؤولين في المستشفى، وأمهل الإدارة الجديدة مدة أسبوعين للإصلاح، لكن ثلاثة أيام فقط كانت كافية لإصلاح الأمور. واحتاج الأمر أن ينقص من ميزانية حفلة افتتاح البرلمان الجديد من مائة ألف دولار إلى سبعة آلاف دولار، وحوّل هذه المبالغ لتكملة نواقص المعدات والأجهزة الطبية والصحية في المستشفى. وموقف كهذا جعل منه شخصًا محبوبًا في الأوساط التنزانية، لدرجة أنّ المعارضة أقرت أنه فيما تسعى هي لاجتثاث الفساد صار هناك رئيسٌ يسير معها على نفس الخط.

والحديث عن محاربة ماجوفولي للفساد، يقودنا إلى الحديث عن إقالته نحو عشرة آلاف موظف مدني، بعد أن كشفت عملية تحقيق عن وجود آلاف الموظفين العاملين الذين يحملون شهادات مزورة تم تعيينهم في الحكومة. وقال عنهم "إنهم لصوص كأيّ لصوص آخرين.. لا يمكنك تقديم الأداء المطلوب بالعمل إذا لم تكن لديك المؤهلات المطلوبة. في حين نعمل بدأب لخلق فرص عمل جديدة، هناك من يعملون في الحكومة بدرجات علمية مزورة". وأشار إلى أنّ الحكومة كانت تخسر نحو مائة وسبعة ملايين دولار سنويًا في دفع رواتب لموظفين وهميين أقيلوا الآن من القطاع العام. وجاءت حملة الشهادات المزورة بعد حملة مماثلة كشفت عن وجود تسعمائة ألف وسبعمائة موظف لا يقومون بأيّ عمل ويتقاضون رواتب من القطاع العام. ولم يكتف الرئيس بذلك، بل أصدر أوامره بالإعلان عن أسماء الموظفين المفصولين لفضحهم أمام الرأي العام، واصفًا إياهم بـ "المجرمين السارقين".

امتلك الرئيس ماجوفولي روحًا عامرة بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، مقرونة بالتسامح الديني الذي جعله لا يفرق بين ديانة وأخرى في بلاده. واتضح هذا في كلِّ مواقفه وخطاباته، فقد كان حريصًا - وهو المسيحي - على الاقتراب من المسلمين في أعيادهم ومناسباتهم، وعندما زاره الملك محمد السادس ملك المغرب، طلب منه أن يبني جامعًا كبيرًا للمسلمين، وقد شاهدتُ فيديو للرئيس ماجوفولي وهو يزور الجامع مرتديًا الدشداشة والكُمَة. وقال "كان بإمكاني أن أطلب من عاهل المغرب شيئا آخر، لكني أشكر الله سبحانه وتعالى، الذي ألهمني أن أطلب منه بناءَ هذا الجامع، لإيماني أنّ أفضل ما يُبنى في هذه الدنيا هو ما يُعبد فيه الله، وأنّ الله إذا اختار أمانته وانتقلتُ إلى دار الحقّ، فإني سأكون مرتاحًا لأني سعيتُ في بنائه". وقال: نظر إليّ محمد السادس مستغربًا كيف لي أنا المسيحي أن أطلب بناء جامع للمسلمين هو الأكبر في تنزانيا بدلا من أن أطلب منه سيارات وأشياء أخرى مثلا؟!

لم تكن ديانة ماجوفولي المسيحية عائقًا في أن يعيّن سامية حسن نائبة له، التي تولت الرئاسة بعده - وهي المسلمة المحجبة والتي تستشهد بكلمات عربية في خطاباتها - فأصبحت اليوم بعد رحيله أول رئيسة لدولة في شرق القارة الأفريقية.

وإذا كان التسامح الديني والتشدد في محاربة الفساد من أهم مزاياه، فقد كان إفراطه في الإيمان بنظرية المؤامرة الغربية أشد عيوبه. فقد ظلّ ينكر وجود فيروس كوفيد - 19، وتعارضت تصريحاته مع الإجماع العلمي العالمي، وتوصيات منظمة الصحة العالمية، عندما قال أكثر من مرة: "نحن التنزانيين لن نحبس أنفسنا. لا أتوقع إعلان أيّ عزل عام، لأنّ الله موجود وسيواصل حمايتنا، سنواصل اتخاذ الإجراءات الصحية الاحترازية، مثل استنشاق البخار. تستنشق وأنت تدعو الله.. تدعو الله وأنت تزرع الذرة والبطاطا حتى تستطيع أن تأكل جيدًا وتفشل الكورونا في الدخول إلى جسدك. أيها الرفاق سيحاولون إخافتكم كثيرًا، لكن عليكم بالثبات". أما عن اللقاحات فإنه يرى "إنها ليست جيدة. ولو كانت جيدة لكان البيض وجدوا لقاحًا لفيروس الإيدز". ولكن الرئيس أقر بعد شهور من الإنكار أنّ بعض مساعديه وأفراد أسرته أصيبوا بكورونا لكنهم تعافوا منه، وطلب من مواطنيه ارتداء الكمامات، كإجراء احترازي ضد الفيروس، ومع ذلك ظلّ على ريبته، إذ قال إنه يجب على المواطنين ارتداء الكمامات المصنعة في تنزانيا فقط لأنّ المستوردة ليست آمنة. أما عن نفسه فقال: "يجب ألا نخاف من الموت. كلنا سنموت. وأنا سأموت حسب مشيئة الله، قد أموت بكورونا أو بغيره، لذا ترونني لم ألبس الكمّام، لأني لا أخشى الموت". وقد أشيع أنه مات فعلا بكورونا، وليس بسكتة قلبية كما صرحت خليفته. وسواء مات بهذا السبب أو ذاك فالمؤكد أنه كان واثقًا أنه عمل لصالح شعبه بأمانة وإخلاص. لذا نجده يقول في كلمة أقرب إلى وصية: "إخواني. سيأتي يومٌ ستذكرونني فيه بخير.. لأني أفنيتُ عمري صدقةً في خدمة المساكين والفقراء التنزانيين. لذا على التنزانيين أن يتّحدوا وألا يختلفوا، وألا تثور بينهم العصبيات القبلية أو الدينية؛ ليكن هدفنا جميعًا بناء تنزانيا".

رحل الرئيس جون ماجوفولي الذي ارتبط اسمه ارتباطًا لصيقًا بمحاربة الفساد، فسمّاه البعض بالجرّافة التي جرفت الفساد والمفسدين، ورغم أنه أثار بعض الجدل حول الحريات داخل بلاده، إلا أنه قدّم دروسًا لزعماء العالم الثالث - بما في ذلك الوطن العربي - حول المواجهة الحقيقية للفساد، وكان جريئًا في اتخاذ قرارات صارمة ضد آلاف مؤلفة من الموظفين الفاسدين في القطاع العام. والدرسُ المستفاد من تجربة ماجوفولي أنه اختلف عن الذين ظلوا يتحدّثون عن مكافحة الفساد ومواجهته، دون أن يتخذوا خطوات حازمة وفاصلة في تحقيق ذلك، فجعلوا "مكافحة الفساد" مجرد شعارٍ يُرفع دون مضمون. والسؤال المطروح الآن هو: هل تستطيع سامية حسن، رئيسة تنزانيا الجديدة، السير على نهج سلفها؟ وهل سيتركها الفاسدون تؤدي عملها؟