أحمد الفلاحي
أحمد الفلاحي
أعمدة

الـ "هنقري" .. بأثر رجعي

21 مارس 2021
21 مارس 2021

أحمد بن سالم الفلاحي

عندما نتحدث عن الـ "هنقري" فإننا لا نتحدث عن شخصية خيالية، من شخصيات مسرح الدمى الهزلي "الأرجوز" وإنما نتحدث عن شخصية واقعية في المجتمع العماني؛ بتسميته الخاصة الـ "هنقري" ولعبت أدوارا محورية في استغناء بعض أبناء المجتمع عن ذل الحاجة، فهو الرجل الميسور، وصاحب اليد الممدودة للناس المحتاجين، وذوي الفاقة، والكريم والسخي في بلده، ومن تتجه إليه قوافل من تقطعت بهم السبل، وخاصة في ذلك الزمن الذي تشح فيه مصادر الرزق، ويعيش أغلب الناس على الكفاف، ولذلك نظر إلى الـ "هنقري" بالكثير من التقدير، والاحترام والتبجيل، كما لعب دورا في تصويب مسارات أفراد المجتمع في سلوكياتهم، فبقدر مساندة الـ "هنقري" لأبناء المجتمع، كان يحظى بالكثير من الاحترام والتقدير، وبشيء من الطاعة أيضا، وإن لم يكن ضمن شخصيات القيادات التقليدية المعروفة في المجتمع، وقد يجمع المهمتين في بعض الأحيان، ويذهب المعنى الميكانيكي لـ "هنقرية" إلى أن واحدا؛ في الغالب؛ في المجتمع يكون ممن يسر الله عليه أحواله، وأتاه من المال الكثير، لا يتحقق عند الكثرة الغالبة من أبناء المجتمع في قرية، أو حاضرة ما، وفي الغالب تكون يده ممدودة، ويقيل الناس من عثراتهم الكثيرة، فيقف بجانب الفقير، والملهوف، ومع أن الإنجاز التطوعي لـ "الهنقري" إنجاز فردي بامتياز إلا أنه؛ ومن خلال هذه اللحمة الاجتماعية؛ لم ينظر إليه بالتوصيف الفردي المطلق، ولذلك لم يحرم من اجتماعيته المؤازرة له على طول خط سير هذا البذل، وإن كانت هناك "نتوءات" لبعض الممارسات تصدر من الـ "هنقري"قد تربك المشهد الصافي في هذه العلاقة، وقد يتعرض إلى كثير من النعوت السيئة إن هو أخل بهذا العقد الاجتماعي مع أبناء المجتمع من حوله؛ على الأقل؛ إلا أنه قد ينظر إلى هذا الإخلال وفق المقاربة المفاهيمية لمعنى الحديث: "اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".

شكل الـ "هنقري" أهمية خاصة في ذلك الزمن البعيد، سواء على مستوى القرى، أو على مستوى الحواضر، كما يروي كبار السن، فبيته هو محط الركبان، والقوافل، والهنقرية بهذا التوصيف يتجاوز المسمى المجرد، لأنه غني وفقط، إلى الفعل المنجز بسهولة ما في اليد، وقربها من الآخرين، الذين يوقنون أن قربهم أو توجههم إلى الـ "هنقري" فلان لن يكون مشوارا خاسرا في كثير من محطات العطاء، فنفسه السخية تتجاوز توقعات القادم من البعيد، وما يجده الزائر القائم في هذا المنزل دون غيره، ينطبق عليه قول القائل: "يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا؛ نحن الضيوف وأنت رب المنزل"ولذلك تجد مظاهر الضيوف حاضرة دائما داخل مجلسه، من كل حدب وصوب، حيث لا منازع هنا لهذا الاستضياف المستمر طوال أيام السنة.

السؤال هنا؛ هل الرأسمالية الليبرالية الحديثة كانت حاضرة في فكر الـ "هنقري" في ذلك الوقت؟ وكان يقاومها، حتى لا تفسد عليه ذلك الالتفاف الجميل، والتقدير الكبير الذي يلقاه من أبناء المجتمع الصغير؟ ربما يكون الرد بالإيجاب على هذا السؤال، صحيح؛ أن الرأسمالية لم تكن حاضرة بمفهومها الحديث في تلك الذاكرة الجمعية، ذات البيئة الثقافية التقليدية في مراحلها البكر، ولكن كانت الممارسة ذاتها لا تختلف كثيرا عن التأطير العلمي لها اليوم، ولذلك كان الـ "هنقري" بعطائه المستمر والمتنوع، واللا محدود شكل ملمحا مهما؛ كما أتصوره؛ لمجابهة الرأسمالية القذرة التي حلت اليوم بـ "صفاقتها" وحشريتها، وقسوتها على الناس من هم في دون مفهوم الـ "هنقري" مع أنه لا يجب الإنكار المطلق لبعض الـ "هناقرة" في ممارسة الرأسمالية بتعريفاتها الحديثة الدقيقة اليوم، ومن سلم من ممارستها في ذلك الزمن، فقد تبوأ مرتقى ساميا، ليس عند المحيطين به؛ فقط؛ ولكن عند كل صاحب حاجة من البعيدين أيضا.

في ظل مفهوم الـ "هنقري"لم يكن هناك من يفكر في مجتمع الرفاه، أو "فخ الرفاهية" الذي تحدث عنه المفكر يوفال نوح في كتابه (العاقل) حيث تتساوى قيم الغنى عند كل أفراد المجتمع، وكان يكفي أن يكون هناك "هنقري" واحد في القرية تتجه إليه الآمال لتغذية حالة الكفاف في مستواه الأدنى على الأقل، ويبدو أنه ليست هناك ثمة ضرورة لأن يطمح الجميع أو البعض لأن يذهب أكثر من ذلك، فـ "(100) قرش"؛ العملة المتداولة في ذلك الزمن يمكن أن تعمر عند صاحبها أكثر من عام، وقد تزيد، فمحدودية الالتزامات عند كل الناس، أوجد عندهم قناعة الكفاف، والرضى بالقليل، ولذلك نظر إلى الاستدانة على أنه عبء معنوي أكثر منه مادي، لأن ذلك قد يرتبط برهن شيء من الممتلكات المادية: "مزرعة، منزل، بندقية، خنجر" والرهن معناه مقبوض عند صاحب المال، ومن يفتقد شيئا من هذه الرهونات كأنه يفتقد أحد أولاده، هذا بخلاف الخسارة المادية المصاحبة، ولذلك كان الـ "هنقري" مرجعا لكثير ممن قست عليهم الحياة، سواء في فك الرهن، أو حتى الصدقة في أغلب الأحيان، ولذلك كانت حظوة الـ "هناقرة" عند معظم الناس، كبيرة، وتقابل بالكثير من الاحترام والتقدير، والتبجيل، وربما كان القليل من هؤلاء الـ "هناقرة" من يشذ عن هذه الصورة الحالمة في هذه الذاكرة الجمعية التي نتحدث عنها.

نظر إلى الـ "هنقري" على أنه مساحة من العطاء الممتد، بلا مقابل؛ في كثير الأحيان؛ وإن كانت هناك نتوءات في بعض المواقف؛ كما يذكر؛ فإن ذلك لن يشوه الصورة كثيرا، حيث ظلت صورة الـ "هنقري" في الذاكرة الجمعية أقرب إلى الود منها إلى الحنق، أو النذالة، ففي ذلك الزمن مثلت شخصية الـ "هنقري" الجمعية الخيرية في مصطلحات اليوم، وقد يرقى إلى مصطلح البنوك أيضا، مع أن مصادر الـ "هنقري" هي أيضا محدودة إلى مستوى معين، فماذا عساها أن تكون مصادر الرزق في ذلك الزمن الجدب، أكثر من منتوجات الزراعية، يتقدمها حصاد النخيل السنوي؛ والذي تمتلئ مزارع بساتين النخيل بكل أهل البلدة في يوم الحصاد، أو ما يسمى بـ "الجداد" حيث يملأ الفقراء والمحتاجين بعض أوعيتهم المخصصة لهذا اليوم مما تجود به يدي الـ "هنقري" في ذلك اليوم، ومما يروى من قصص طريفه في هذا الجانب، أن أحد الفقراء تسلق سور مزرعة الـ "هنقري" وبدأ في قطف التمر من إحدى النخيل المتدلية بصورة فيها من القلق ما فيها، حتى لا يراه صاحب المزرعة فيطرده دون أن يحصل ولو على الشيء اليسير مما يريد، فالأطفال في البيت جوعى، فشاهده صاحب المزرعة؛ فاسرع إليه، وبدأ يساعده في القطف، ويستحثه ويسر إليه أن عليه أن يتزود أكثر قبل أن يأتي صاحب المزرعة فينهره ويحرمه مما قد حصل عليه (تلك صورة مشرقة) كانت تتداولها ألسنة كبار السن، وهم يستحسنون فعل الـ "هنقري" في بعض المواقف، وفي مواقف أخرى يقال أيضا: أن الـ "هنقري" أخرج رطبة من فم أحد الجوعى لأنه لم يستأذنه في أكلها، فيبدو أن هناك مراوحة في الفعل بين سلوكيات الـ "هناقرة" وليست المسألة خيرا بالمطلق.

وختاما؛ ماذا عن "هناقرة اليوم"؟ الصورة تبدو مشوهة كثيرا اليوم، للمعنى الدلالي والميكانيكي لـ "الهنقري" وذلك عائد إلى كثرة الـ "هناقرة" في المجتمع الواحد، بما يمثله الثراء الفاحش عند أغلب الـ "هناقرة" ولكن مع ذلك تظل المفارقة جد واسعة وبعيدة بين هنقري (اليوم) وهنقري (الأمس) ليس فقط في الثراء الباذخ، ولكن السمو في ممارسات العطاء، وفي توظيف المال، وفي ترسيخ فكرة لدى أبناء المجتمع أن هذا الـ "هنقري" أو ذاك يمكن أن يكون العضد والسند لأي نازلة على المستويين الفردي والجمعي، وهنا تذهب الصورة إلى ترهل العوامل المؤثرة للعقد الاجتماعي المبرم؛ وغير الملزم؛ بين طرفين مهمين، يمثل الـ "هنقري" طرفها الأول، والمجتمع؛ طرفها الثاني، ولنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ الأثر في قوله: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" – حسب المصدر -.