فاطمة الشيدية
فاطمة الشيدية
أعمدة

الشعر والأم وكورونا

20 مارس 2021
20 مارس 2021

د.فاطمة الشيدي

في هذا الوقت العصيب إذ يصبغ الجزئي الكلي؛ يصبغ الموت الحياة، ويصبغ الخوف الأمان، ويحضر البلاء المسيطر على حيواتنا من الخارج للداخل، ومن الداخل للخارج، ويتجلّى القلق مع كل احتفاء وكل بكاء، ويتصاعد مع الفرح ومع الحزن في ذات الآن؛ تتغير نظرتنا للأشياء بالضرورة فنحن أبناء الزمن وليس من الممكن رمسنة الوضع، بل يجب صبغ الحالة بشعرية الموقف، فالوضع إذ يصبح غريبا يلوّن كل الحياة بمبهجاتها ومنغصاتها.

وهكذا لايمكننا أن نحتفي بالشعر هذا العام دون أخذ "كورونا" بعين الاعتبار سواء كان قصيدة عنه أو منه أو فيه سواء كان الاحتفاء فرحا بنجاة أو حزنا على غائب.

منذ زمن حدثت قلقلة في وعيي الشعري، لأجد أنه كان طفليا أو رومنتيقيا أكثر مما ينبغي في استيعاب مفهوم الشعر الأكبر، أصبحت أعي أن الشعر موقف جمالي من الحياة، وله أبعاد حياتية أكبر من النص، وأوسع منه وأعظم.

وما أن قرأت رواية "هيا نشتر شاعرا" أدركت أنه يمكن جعل الشعر محورا اقتصاديا تماما كما يرى كاتبها في النص وفي الدراسة المرفقة.

نردد دائما مقولة إن "الشعر حياة" وهو كذلك فعلا.. ولكن كيف ؟! أن يكون الشعر الحياة يعني أن يكون محورها، وأهم بعد من أبعادها، أن يكون حالة ثقافية عامة نعيشها ونعايشها، ونلمس آثارها الاجتماعية والاقتصادية وندرسها أيضا.

في زمن كورونا أتأمل مواقع التواصل والمجلات والجرائد وأجد الشعر أكثر ما ينشر؛ إذا هو أكثر ما يكتب أيضا، أكثر ما يفكر فيه ويمارسه ويعيشه فئة ليست قليلة من البشر الذين امتهنوا الكتابة أو تنفسوا عبرها.

هل يواجه الشعراء كورونا بالشعر ؟! بما يعرفون ويحبون ويهتمون له.

نعم يحدث ذلك الآن؛ كما يواجه البشر كل صعب بكل جميل.

نواجه كورونا بالحب ضد الكراهية، وبالوعي مقابل الحمق، وبالجمال مقابل القبح، نواجهه بحبنا لأمهاتنا، لأطفالنا، للحياة ضد الموت، تماما كما يغني المغني حين يحزن وحين يعشق وحين يتألم.

ويحدث أن يأخذ الشعر أشكالا أكثر حياة وحيوية أكثر بهاء من نص، وهذا ما يجب أن يكون فعلا وكثيرا.

فما يزال صوت ذلك الممرض العراقي في المقطع المتناقل عبر مواقع التواصل يغني لمرضى كورونا للمرأة/الأم على فراش المرض/الموت؛ وحيدة معزولة أجمل قصيدة في هذا الزمن الصعب وأجمل ما يمثل الإنسان والأم والشعر في زمن كورونا.

تماما كما يمثل الشعر كل ما نفعله بمحبة وجمال، من عناق لأم، وسؤال عن غائب وبكاء على مغادر.

فالشعر الذي هو الحياة هو قلب الأم التي نحتفل في يومه بعيدها أيضا.

هو صدى روح الأمهات الكثر اللاتي غيبهن كورونا وأسعفهن الشعر قصائد وأغنيات ومحبة ودموعا.

في يوم الشعر علينا أن نؤمن أن هناك شعرا دائما في كل مكان نراه ونلمسه ونعيشه، شعر يوازن كفة الحياة ويعدّل قليلا وجهها إذا أصبح كالحا وحزينا، ومزاجها إذا صار كئيبا وقاتما.

شعر يضفي حلاوة على كل مر، وليونة على كل قاس، إنه يد الأم تمسح على قلوبنا المرهقة، وصوتها الذي يدفئ برد الأيام، الشعر هو المحبة التي تعطي الكون ملح الفرح، ولذة العبور، الشعر هو السلام الذي يغمر الكون والإنسان في حروبه الصغيرة والكبيرة، الطويلة والقصيرة، التاريخية واليومية.

الشعر هو حكمة الجد الذي تركها لنا إذ يغادر قبل أوانه في هذه الأزمة، هو لثغة الأطفال بالمحبة وهم يرتدون كمامة وردية بصور كرتونية في عرباتهم، وهو الحنين الوجودي للبعيد الذي لا نعرف والذي تعبّر عنه فيروز بـ" أنا عندي مابعرف لمين" رغم الخوف ورغم كورونا.

الشعر هو أغنية الصباحات التي تشق دجى الصمت وتسري لأبعد نقطة في العروق مع سائل القهوة لتتخذ الحياة بعدها منعطفا آخر تماما فيبدأ اليوم منها وإليها بعيدا عن المقاهي التي نحب.

الشعر هو تلك الإرادة الضمنية بأن تكون أجمل ليصبح العالم أجمل رغم ارتباكات الوجود وأخباره السيئة التي تحاصرك في سريرك، هو جرح قديم يسكن كل روح يغطيه غبار الذكريات وتنعشه نسمة تعبر الروح أو حجر صغير يصيب موضعه تماما فتسيل منه الكلمات والمشاعر والصور.

الشعر هو صوت الذاكرة الخفي الذي يجعل الماضي أحلى بكبواته وعثراته وبساطته وأوهامه وألوانه الباهتة وأصواته التي تشبه كركرة طفلية صادقة لاتتكرر أبدا بعد ذلك.

الشعر هو الكتابة التي تتورم لها الروح والأصابع قبل أن تتصير نزفا حادا وخاصا على الورق.

هو سيرة العشاق المرتعشة بالشوق والراعفة بالعذاب.

الشعر هو التغيير الأهم الذي كما قال إنشتاين لو خلي بينه وبين العلم لأصبح العالم أجمل ولكن الفلسفة توسطت الفراغ بينهما فحدث الارتباك الكوني.

الشعر هو أجمل مايحدث لكل منا وأقسى ما يحدث لأي منا كتب ذلك أو يكتبه، هو جرح ليس عليه أن يبرأ لأنه هو الإنسان، ولنحرف قليلا نص نزار قباني لنقول إن الإنسان بلا شعر ليس إنسانا.

إنه فعل المقاومة الأهم وروح الكون الأجمل في زمن كورونا وكل زمن سبقه أو سيأتي بعده. إنه الخير والمحبة والسلام.

وإن كان علينا أن نحتفى بالشعر كل عام لنعدل إطار الصورة قليلا في ميلها الكوني المستمر؛ فإن علينا أن نفعل ذلك أكثر هذا العام لأن الصورة تداعت تماما.

احتفاؤنا بالشعر هذا العام يجب أن يكون قصيدة بكمامة ومعقم، قصيدة نتشبث عبرها بالحياة ونقدس عبرها سرها المكنون المتمثل في الحب، علينا أن نحتفى هذا العام بالشعر كحياة تواجه الموت، ونحتفي بالموتى كأصدقاء غدر بهم الزمن، ونحتفظ بصورهم في متن أرواحنا وضمائرنا، نحتفي بالشعر كفعل مقاومة وجودي خالد وجريء عبر قيم الخير والسلام المحبة والجمال.