بشرى خلفان
بشرى خلفان
أعمدة

نوافذ: لحظة امتنان

17 مارس 2021
17 مارس 2021

بشرى خلفان -

كتبت منذ مدة مادة لمنصة تكوين، كانت المادة عن الكتابة الإبداعية، بعنوان“ الكتابة الإبداعية بين الرمنسة والواقع اليومي المعاش”، أردت بها تفنيد بعض الأقوال والآراء حول النظرة الرومانسية لفعل الكتابة في مقارنة مع واقع الكتابة، الذي نخبره ككتاب يحاولون قول شيئا ما للعالم.

في مقدمة المقال، ذكرت الكتاب الذين تأثرت بهم في البدايات بعد خروجي من أجواء المكتبة الخضراء، والشياطين الـ١٣، فأوردت أسماء مثل تشارلز ديكنز وفيكتور هيجو واليكسندر ديماس والمنفلوطي وطه حسين والحكيم، لكنني اليوم وأنا أراجع المادة تبين لي أني غفلت عن ذكر الأديب والمفكر اللبناني الأصل جورجي زيدان، على الرغم من أنه كان من أكثر الكتاب الذين قرأت لهم في تلك المرحلة، أي بدايات تشكلي القرائي، وأثر بلا شك في ميلي للرواية التاريخية، قراءة وكتابة، فمثلا أنا من قراء أمين معلوف المعروف برواياته “موانئ الشرق” و”سمرقند” و”ليون الأفريقي” وغيرها، كما أني من معجبي الروائي اللبناني ربيع جابر، بدءا من روايته الأولى طيور العتمة ١٩٩٢ حتى طيور الهوليدي إن في ٢٠١١، وأنا من قراء أورهان باموق المخلصين، باموق الذي يأسرني بسيره في التاريخ واسطنبول على حد سواء.

نعم، أستطيع أن أقول إن جورجي زيدان أسهم في تشكيل ذائقتي القرائية الأولى، على الرغم من النقد القاسي الذي وجه إلى رواياته سواء كان على مستوى الشكل أو المضمون، لكن كيف لقارئة مراهقة في ذلك الزمن أن تعي فكرة الشكل وتقنيات السرد، أما المضمون والاتهامات التي طالت جورجي زيدان حول اختياره لمواضيع كتابته، فتبدو لي أنها ربما كانت تحمل في طياتها الكثير من المغالاة.

لكني نسيت ذكر جورجي زيدان في تلك الورقة، وأنا التي أظن في نفسي الوفاء لمعلمي وأساتذتي، شعرت بشيء من الذنب، لذا وجدت أنه من باب الامتنان والوفاء، وتكفيرا عن ذنب النسيان، أن أتحدث عنه، فربما نسي في زخم أسماء الأدباء التي نتداولها، وربما لعبت الأيام لعبتها في ذاكرتكم أيضا مثلما لعبتها في ذاكرتي.

لعب جورجي زيدان عدة أدوار في الحياة الثقافية المصرية بعد هجرته من بيروت إلى القاهرة لدراسة الطب في ثمانينيات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث عمل في تحرير جريدة الزمن، ثم عمل مترجما في “مكتب المخابرات البريطانية” بالقاهرة ورافق الحملة الإنجليزية التي توجّهت للسودان، وربما من هنا بدأت نشأت نظرية المؤامرة التي اتهم فيها بأنه تعمّد تشويه التاريخ الإسلامي من خلال تركيزه في رواياته على مراحل الضعف والفرقة، بدلا عن تركيزه على المراحل المزدهرة منه، وهنا يتبادر سؤال إلى ذهني قد يكون فيه شيء من العجلة، حول كيف للدراما التاريخية أن تتخلق في أوقات الازدهار، لكن هذا السؤال بحاجة إلى مبحث مستقل، لا طاقة لي به اليوم.

بعد أن استقر زيدان في القاهرة، اشترك في إنشاء مطبعة مع نجيب متري، ثم عندما انفضت الشراكة بينهما احتفظ جورجي زيدان بالمطبعة وأسماها مطبعة الهلال، وعن هذه المطبعة أصدر مجلة الهلال في عام ١٨٩٢ ، والتي أصبحت بعد عدة سنوات من أكثر المجلات انتشارا، وكتب فيها كبار كتاب مصر وربما العالم العربي، وترأس تحريرها كتاب وأدباء كبار مثل علي الراعي وصالح جودت وأحمد زكي.

كتب جورجي زيدان في مجالات مختلفة وله في التاريخ عدة مؤلفات، مثل تاريخ العرب قبل الإسلام، تاريخ مصر وتاريخ التمدن العربي وتراجم مشاهير الشرق، أما في اللغة العربية وآدابها، فله الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية، وتاريخ آداب اللغة العربية، وكتاب اللغة العربية كائن حي، أما في الرواية فله حوالي عشرين رواية، قرأت أكثرها وأنا مراهقة.

يتبادر في ذهني الآن وأنا أعود للقراءة عن جورجي زيدان في الويكيبيديا، ترى كم من الكتاب العرب الذين كانوا حملة شعلة التنوير، في مرحلة اليقظة العربية، وأنتجوا في حقول مختلفة، وتأثرنا بهم في مراحل تأسيسنا الأولى، مثل بطرس البستاني والطهطاوي والكواكبي والحصري ونعيمة وجبران ومطران والمنفلوطي وآخرون أغفل ذكرهم، وربما سقطوا من ذاكرتنا، وهل هذه الغفلة كانت نتيجة طبيعية لسير الزمن وحركة التاريخ، أم أننا ما عدنا نثق في الأصول والأسس والمنابت؟