أفكار وآراء

في معنى النجاح

14 مارس 2021
14 مارس 2021

علي داود اللواتي -

لو سقطت شجرة في مكان لا يوجد به أي إنسان، هل ستصدر صوتا؟ طبعا لا، فالكون من دون الإنسان، وفي أحسن الأحوال، يمكن وصفه بمعادلات رياضية فقط، رموز وأرقام. فعين الإنسان هي التي تهب السماء زرقتها، وعقله هو الذي يمنح الأرض مواسمها ومباهجها.

إذا سألنا أجدادنا عمّا كانوا يحلمون به في شبابهم، لو كان لديهم متسع للحلم، فلن نسمع مفردة «النجاح» على الأغلب، بل تعابير أوضح بكثير من قبيل جني المال أو تحصيل العلم أو توسيع التجارة أو كسب الرزق أو خدمة الناس أو المكانة الاجتماعية وغيرها. فمفردة «النجاح» وفق السياق الذي تُستخدم فيه اليوم دخيلة على وعينا إلى حدّ كبير، ابتداء بسبب العولمة وثقافة الإنتاج والاستهلاك وانتهاء بسبب وسائل التواصل الاجتماعي. مفردةٌ واضحة تعني أشياء كثيرة وفي نفس الوقت غامضة لا تشير إلى أي شيء مفهوم ومحدد إطلاقا.

الكل يريد أن ينجح اليوم. الكل يريد أن يحقق «النجاح»، «كسراب يحسبه الظمآن ماء». ولكن ربما يمكن تفكيك معنى مفردة النجاح بتأمّل السياق الذي تُطرح فيه عادة، وهو سياق العمل أو الفعل سواء كان ذا عائد مالي أو غير ذلك، فكأنّ النجاح هو تحقيق الغاية القصوى من أي فعل، حتى لو كانت غير واضحة المعالِم للفاعل نفسه، والغاية القصوى عادة ما تكون غاية مثالية في ذهن صاحبها. تشير المفردة بالتالي إلى نوع من نزعة للكمال والتفوق المصحوبة بامتلاك نوع من سلطة وقدرة على التحكم بالآخرين أو توجيههم، والتي لعلها إحدى تقنيات «البقاء للأصلح» التي طورها النوع البشري في عالَمه الخاص.

يمكن النظر إلى التشجيع على العمل في المجتمعات التي يسودها الاستبداد كما كان الحال في مجتمعات القرن العشرين الشيوعية وسيلة لإلهاء الناس عن المطالبة بحقوقهم الطبيعية أو حتى الانتباه لها، ولكن مع تفوق الثقافة الرأسمالية المتلونة والأسواق الحرة وقوانين التجارة الدولية، والتي حملت معها وعودا كبيرة للجميع وللمبدعين خاصة بإمكانية الظهور و«التسلط» الناعم على الآخرين من دون الحاجة إلى دعم اجتماعي أو سياسي مُسبق، برزت وراجت ثقافة النجاح وتحقيق الذات، والتي تعززت مؤخرا بوسائل التواصل الاجتماعي وظهور «المؤثرين الناجحين»، مع الاستمرار في تفعيل سياسة الإلهاء والانشغال.

وكما أي توجه مباشر لحيازة أكبر قدر من السلطة، لا تختلف طرق الذين «يتلهّفون» للنجاح في أحيان كثيرة عن اتباع الزيف والنفاق - أو أقصر الطرق كما يحبون تسميتها - مهما كانت آثارها سيئة على الصالح العام أو الآخرين. فهل نصحك أحدهم مثلا بالتقنيات التي ينبغي عليك أن تركّز عليها للنجاح في عملك أو أمام مديرك؟ هل اقترح عليك التركيز على الإيجابيات مثلا وإخفاء أو تجاهل السلبيات؟ أو هل طلب منك تضخيم المهام التي تؤديها بكثرة الحديث عنها والترويج لها في كل مكان أو بالظهور في كل اجتماع بالحديث وتقديم الاقتراحات حتى لو كان الموضوع خارج تخصصك؟ ورغم أن ظاهر مثل هذه النصائح والاقتراحات حسن، ولا داعي لأن تُقدم بشكل سرّي أو مشبوه، فالدبلوماسية والمداراة والاهتمام بما هو مهمّ فعلا ومحاولة إيجاد الحلول بدل التذمر من المشاكل، كلها أمور حسنة، ولكن الحاصل عادة أنها لا تُقدَّم كذلك، لأن صاحبها فعلا يريدك أن تكون ثعلبا مختالا أو ذئبا شرسا لا مهنيا نزيها أو فاعلا عمليا. هي أساليب ميكافيلية، تهدف إلى تحويل الناس إلى سياسيين مخادعين، أو إلهائية لإبعاد المبدعين عن القضايا المصيرية، ورغم أن آثار مثل هذه الأساليب يمكن امتصاصها في المؤسسات العريقة القائمة على أسس رصينة ومحفوظة من القواعد والقوانين الواضحة، إلا أنها حتما لا تسبب غير التهلكة في المؤسسات الحديثة أو غير الناضجة.

لا نعيش في عالم مثالي بطبيعة الحال، إذ يمكن تبرير قدر من الصراع في عالَمنا بل تبرير الحاجة إليه، ولكن لعل ما يميز الإنسان على وجه التحديد أنه يمكن أن يعي الصراعات التي يخوضها ويتنبأ بمستقبلها وبالمسارات التي يمكن أن تسلكها الأحداث، وبالتالي يعمل على توجيهها لما يخدمه، ليس على المدى القصير فحسب وإنما البعيد أيضا. فقصر النظر يعطي مفهوم النجاح أو النزعة للسلطة معنى محدودا وضارا، خاصة مع انتشار مثل هذه النظرة وتحولها إلى ثقافة عامة، في حين القدرة على التنبؤ بالمستقبل يمكنها أن تجنّبه الكثير من الكوارث المحتمَلة. بلا شك ليس الذكاء وإنما الحكمة هو ما يحتاجه أي كائن ليرتقي سُلم الكمال الفعلي، وليس البيولوجي فحسب. «‏إنّ ما يميّز الإنسان عن باقي الكائنات، خاصّة الحيوانية، هو ما سمّاه روسو: قابلية التّحسين؛ أيْ قدرة الإنسان على تحسين ذاته طوال حياته. ففي الوقت الذي يخضع فيه الحيوان لنظام طبيعي غريزي صارم، يملك الكائن الإنساني القابلية للتمرّد عليه.»

نحن أكبر مما نصبو إليه!

«ربما تأمّل النجوم أو المشي أن يكون ميزتي، إنني أجيد المشي فعلا!»، يقول «٢٢» في الفيلم الحاصل مؤخرا على جائزة جولدن جلوب لأفضل فيلم كرتون، Soul، بعد أن جرّب الحياة الأرضية التي كان يرفضها بشدة، ولم يتمكن أكابر الناجحين الأرضيين من إقناعه بها، أمثال ماريا تريزا ومحمد علي وآينشتاين. يعلمنا «٢٢» وصديقه «جو» أن الحلم واكتشاف الشغف الخاص بنا يأتي من خلال التجربة ومع ذلك نحن أكبر من أحلامنا ومما نصبو إليه أو نتوهمه مهما بدا حقيقيا. لأننا لم نعد نندهش من أشياء العالَم، ولا نشعر بغرابة ما نمرّ به من تجارب، ولأننا لا نتأمّل ضوء النجوم ليلا، ولا نكلّم البحر، ولا نراقب حركة ورقة تسقط من شجرة باتجاه الأرض، لأننا يثيرنا الذكاء الاصطناعي أكثر من فكرة كون النبات كائنا حيا، لأننا أصبحنا نعتقد أننا فوق الطبيعة لا جزءا منها، صرنا غرباء عن أنفسنا، وفقدنا بوصلة ما يجعلنا مميزين حقا: المشي! «الحياة ليست مجرد وظيفة، أو مهنة، الحياة شيء غير عادي، لغز كبير، واسع وعميق، مملكة واسعة نعمل في داخلها كبشر. فإذا لم نهيئ أنفسنا فيها إلا لتأمين معيشتنا نكون قد انحرفنا عن معنى الحياة.»