أفكار وآراء

عودة اللحمة لبيت العرب عبر بوابة المصالحة الخليجية

13 مارس 2021
13 مارس 2021

د. عبدالعاطي محمد -

وافق وزراء الخارجية العرب بالإجماع على التجديد للأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط لفترة جديدة 5 سنوات، وذلك في الدورة العادية الخامسة والخمسين بعد المائة لمجلس الجامعة على المستوى الوزاري. وفي أزمان مضت كان خبرا كهذا يثير من الضجة والجدل الكثير على الصعيدين السياسي والإعلامي، ولكن هذه المرة جاء أمنا وسلاما على الجميع، مما يؤكد أن هناك تطورات مهمة إيجابية توالى حدوثها في الفترة الأخيرة ركزت على تحسين الأجواء وتعزيز العلاقات العربية - العربية، وتأتى على رأس هذه التطورات المصالحة الخليجية التي تمت في قمة العلا بالمملكة العربية السعودية أوائل العام 2021.

ولا يخفى على القارئ الفطن أن يرصد أهمية التطورات التي سبقت قمة العلا ولحقتها، وجعلت مسألة التجديد للأمين العام للجامعة العربية أمرا يسيرا حيث وصلت الموافقة التي حد الإجماع أو دون تحفظ من البعض، أو حتى إثارة قدر ما من أنواع التنافس بل والخلاف كما كان يحدث في حالات سابقة. وإذا أخذنا بمعطيات واقع العلاقات العربية منذ العام 2016 وقت تعيين أحمد أبو الغيط أمينا عاما للفترة الأولى، وحتى قبيل إتمام المصالحة الخليجية، لوصلنا إلى نتيجة مختلفة تماما جوهرها حدوث أزمة سياسية شديدة بخصوص التجديد للرجل لفترة ثانية. وبما أنه حدث العكس حيث مرت عملية التجديد بسلاسة، فإنه يتعين الوقوف عند المتغير الذي طرأ على الواقع العربي وأحدث الفارق، وهنا لا نجد ما هو أكثر تأثيرا في مجريات الأحداث من المصالحة الخليجية التي فتحت الباب للتهدئة والتقارب والتوافق وعودة اللحمة ليس فقط في الساحة الخليجية وإنما على الصعيد العربي ككل. هذا هو المتغير الذي ينفرد بتحقيق التأثير الإيجابي في حاضر ومستقبل بيت العرب (الجامعة العربية).

لو عدنا إلى الماضي البعيد والقريب أيضا وتعاملنا مع المسألة بنفس المعطيات التي اعتدنا عليها سنوات عديدة، وحتى لو لم تكن هناك أزمة مثل الأزمة التي عكرت الأجواء الخليجية والعربية منذ العام 2014، لوجدنا أن الدولة التي تحتضن مقر الجامعة وهي مصر تتقدم بمرشح ما للمنصب، وتقابلها بعض الدول العربية الأخرى التي تتقدم أيضا بمرشحيها، وبما أن التنافس يصبح سيد الموقف، غالبا ما تكون هناك أجواء مشوبة بالخلافات السياسية والإعلامية تعكر ولو إلى حين العلاقات العربية - العربية، وتزداد الأمور سخونة كلما كانت المنطقة العربية تمر بأزمات حادة تعكس انقساما شديدا في المواقف المتعلقة باختيار الأمين العام للجامعة العربية. ومن الصحيح أنه منذ قيام الجامعة كمنظمة إقليمية عام 1945 جرى العرف على أن تتقدم الدولة المقر للأمانة العامة بالمرشح للمنصب، وكذلك أن تتقدم بنفس الطلب للتجديد فترة ثانية للأمين العام أسوة بما يحدث في الأمم المتحدة ومنظمات إقليمية مشابهة، إلا أن ميثاق الجامعة لا يحتم ذلك لا في الترشيح ولا في التجديد، ليبقى الأمر مرتبطا بحالة العلاقات بين مصر وغيرها من بقية الأعضاء من ناحية، وبالعلاقات العربية - العربية بوجه عام من ناحية أخرى. وعليه إن كانت الأوضاع السياسية سيئة في كل حالة أو في كليهما، فالمتوقع دائما هو أن تتحول مسألة اختيار الأمين العام التي أزمة، وهو ما كان يحدث بالفعل بدرجات مختلفة من الخلاف والجدل، و المنطقي أن ينعكس ذلك على أداء الأمين العام، بل وعلى أداء الجامعة في رسالتها الكبرى وهي تفعيل العمل العربي المشترك. والمثال الأبرز - ومع أنه الوحيد في تاريخ الجامعة - هو ما حدث في عام 1979 عقب اتفاقية كامب ديفيد، حيث اعترضت غالبية الدول العربية على الموقف المصري ونجحت في نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة التي تونس، وتم اختيار السياسي التونسي الراحل الشاذلي القليبي أمينا عاما للجامعة في الفترة من 1979 التي 1990. ودون هذا المثال حدثت حالات أخرى للخلاف حول اختيار الأمين العام سواء بتقدم مرشحين من دول عربية غير مصر أو حتى حول اختيار مرشح مصري بعينه، ومما لا شك فيه كانت هذه الأجواء تؤثر سلبا بدرجات مختلفة على دور الأمين العام وعلى العلاقات العربية - العربية.

في حالة التجديد للأمين العام أحمد أبو الغيط تمت العملية في أجواء مختلفة تماما وبسلاسة ولم تشهد ما كان يحدث في السابق من التجاذب في الرؤى والاختيار ومن التعكير في العلاقات السياسية والأجواء الإعلامية. وما كان ليحدث ذلك لولا تحقق قدر كبير من التوافق السياسي العام، الذي لا نبالغ إن قلنا أنه جاء فريدا ومبشرا بمرحلة جديدة مفيدة للعمل العربي المشترك، فحسب معلوماتنا لم تخل في الماضي القريب مسألة الاختيار والتجديد من شد وجذب يصل التي حد العراك السياسي الصريح!. فلأول مرة - على الأقل خلال العقود الثلاثة الأخيرة - نرصد كلمة الإجماع على التجديد. ومن الصحيح أن كلمة التوافق أصبحت تحل محلها، إلا أنه تم ذكرها صراحة هذه المرة، علما أن كلمة التوافق أصبحت مخرجا للتعبير عن الاتفاق على قرار ما وغالبا ما تسمح بالتعبير عن التحفظ أو الرفض برغم حصول الأغلبية الغالبة تقريبا. ولنا أن نتذكر - وهو أمر معروف للكافة وليس سرا - تحفظ دولة قطر على تعيين شخص أبو الغيط عام 2016 أمينا عاما جديدا للجامعة خلفا لنبيل العربي. وقتها وعقب إعلان القرار في اجتماع المجلس الوزاري ألقى الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثانى نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية قطر كلمة أمام المجلس أعلن فيها أن بلاده تتحفظ على شخص المرشح وأنها كانت تود أن يكون هناك توافق على شخص الأمين العام المرشح، ولذلك كان هناك المزيد من التشاور حول هذا الموضوع، ورغبة منا وحرصا منا على ألا يؤثر ذلك على العمل العربي المشترك فنحن سنكون مع هذا التوافق رغم تسجيل تحفظنا على شخص المرشح، ومضى قائلا: «نأمل أن يضطلع الأمين العام بمسؤولياته وأن يتعامل مع جميع الدول العربية بما يخدم العمل العربي المشترك وأن يثبت لنا من خلال عمله في الجامعة أنه أهل لهذا التوافق». ولكن في واقعة التجديد لنفس الرجل خمس سنوات أخرى غيرت قطر موقفها تماما، وقررت الموافقة بلا تحفظات على التجديد له، وقد أبلغت ذلك رسميا للجامعة العربية (أكد ذلك حسام زكي الأمين العام المساعد الذي تم التجديد له أيضا)، والملفت أنها هي التي ترأست الدورة 155 خلفا لمصر وقاد الجلسة وزير خارجيتها الشيخ محمد بن عبد الرحمن نفسه. والملفت أيضا لمن تابع تطورات التجديد أنه حتى أيام قليلة سبقت عقد الاجتماع الوزاري لم تكن 6 دول عربية قد أبلغت موافقتها لمصر أو الجامعة على التجديد، ولكنه تم بالإجماع وبلا أية مشكلات، بما يؤكد أن هناك موقفا استراتيجيا قد تم الاتفاق عليه بحزم وصراحة واقتناع قضى بطي صفحة الخلافات التي شابت الوضع العربي في السنوات الأخيرة وبدء صفحة جديدة تسطر أجواء إيجابية وتعيد الحياة للعمل العربي المشترك. ومن الوارد فعلا أن تكون قطر التي تحفظت في السابق قد لمست ما كانت تنتظره من أبو الغيط وفقا لما سبق ذكره ضمن تعقيب وزير خارجيتها على التعيين 2016، علما أنه من حيث الواقع حرص الرجل فعلا على ألا يكون هذا التحفظ عاملا مؤثرا على موقفه من قطر بل على العكس أكد أكثر من مرة طوال السنوات الخمس الماضية أنه يمثل الجميع، وكانت له مواقف أزالت التحفظ القطري، وهو أمر يحسب له كدبلوماسى مخضرم وحكيم وحصيف. وبرغم أهمية هذه الجزئية في تحليل أسباب التحول من التحفظ إلى التأييد، إلا أن المسألة برمتها لا شك أكبر بكثير من مجرد شخص الأمين العام ومن دوره طوال السنوات الماضية، فهي تتعلق أساسا بالتحول السياسي الاستراتيجي في العلاقات العربية - العربية الناجم عن المصالحة الخليجية. لقد كانت السنوات الماضية صعبة حقا وتطوراتها لا تشير التي العودة للحمة بل لمزيد من الانقسام أو بقاء الوضع المفكك على حاله لأقل تقدير، ومن ثم كانت المعطيات تدفع منطقيا لعدم التجديد أكثر مما تدفع للموافقة عليه، ولكن لأنه كانت هناك رؤية أوسع وأعمق تقدر خطورة التحديات القائمة وما يستجد في ضوء المتغيرات الإقليمية والعالمية ووجود إدارة أمريكية جديدة فضلا عن وجود تحديات داخلية عند الجميع تهدد أمنهم واستقرارهم ووضعهم الاقتصادي، رؤية تم الكشف عنها في قمة العلا ومبادرة دول مجلس التعاون الخليجي إلى استباق الأحداث وإصلاح ذات البين خليجيا وعربيا، هو ما أحدث التحول الإيجابي في الوضع العربي العام، والذي انعكس داخل بيت العرب أو الجامعة العربية، لقد قال أبو الغيط كلاما مس حقيقة المشاعر بخصوص ما آل إليه الوضع العربي وما يتعين تغييره، وذلك في سياق تعليقه على التجديد له خمس سنوات أخرى. قال موجها حديثه للاجتماع الوزاري: «عملت طوال السنوات الخمس الماضية وسط ظروف عربية تعلمون مدى صعوبتها وضغوطها، ووضعت نصب عيني في المقام الأول الحفاظ على هذا البيت العربي الذي نجتمع تحت مظلته، فهو بيت عزيز علينا وعنوان لاتحاد كلمتنا لا ينبغي أن تتهاوى جدرانه أو ينهدم بنيانه تحت أي ظرف.. سوف تبقى هذه المنظمة العنوان الأهم والأبرز للعروبة والسقف الجامع للعرب في كل الظروف». ولكن حقيقة الأمر ما كان له أن يقول هذا الكلام عن العروبة ومؤسستها لولا الموقف الاستراتيجي الذي اتخذه القادة العرب بطي صفحة الانقسام مهما كانت شدة الخلافات وفتح صفحة الوحدة والتعاون في مواجهة التحديات واستعادة الروح الإيجابية للعمل العربي المشترك. وما كان لهذا أن يحدث لولا التحول الذي تم في قمة العلا الخليجية. هكذا كان التجديد للأمين العام واحدة من ثمرات المصالحة الخليجية.