1603953
1603953
الثقافة

مرفأ قراءة .. «العاصمة» لروبرت ميناسه رواية التيه الأوروبي!

13 مارس 2021
13 مارس 2021

إيهاب الملاح -

-1-

بعض الكتب والروايات من الممكن أن تمر علينا دون أن ننتبه كثيرًا إلى عمق الجذور التي تربطها بانشغالاتنا الفكرية والثقافية، ربما في زحمة الأحداث وسيولتها والإيقاع الذي نكاد نلهث من تسارعه المزعج في كل شؤون الحياة بدءًا من التفاصيل الصغيرة متناهية الصغر وحتى الأسئلة الكبرى التي ننشغل بها أو نطرحها على أنفسنا (وربما لا نجرؤ على طرحها سوى لأنفسنا فقط!)

يذكرني «فيسبوك» بتقليده الشهير أنني منذ عامين تقريبا قد ناقشت واحدة من الروايات الأوروبية المهمة التي صدرت في الآونة الآخرة، رواية تمثل خلاصة جمالية مركزة لمدونة الهم والتيه الأوروبي المعاصر.

الرواية اسمها «العاصمة» للروائي النمساوي الشهير روبرت ميناسه، والتي صدرت ترجمتها العربية عن دار آفاق المصرية للنشر والتوزيع في 2019 بتوقيع المترجم المتميز القدير سمير جريس، أحد أهم وأبرز جسور المعرفة والثقافة والأدب بين اللغتين الألمانية والعربية في السنوات الأخيرة، والذي قدم وحده ما يزيد على الثلاثين عملًا من عيون وروائع الأدب الألماني الحديث والمعاصر، فضلًا عن إسهاماته البحثية والتأليفية ومقالاته التي ينشرها في الدوريات العربية المختلفة.

وأذكر أننا ناقشنا الرواية الضخمة (تقع في 568 صفحة من القطع المتوسط) في واحدة من الأمسيات الثقافية التي تنظمها إدارة المكتبة والقسم الثقافي بمعهد جوته العريق بالقاهرة (المركز الثقافي الألماني الدولي)، وأذكر أن الحضور قد انخرط في حماس بالغ في مناقشة أبعاد وجوانب الرواية المختلفة، جماليًا وسرديًا، ثقافيًا وفكريًا، سياسيًا وتاريخيًا، وقد كانت هذه المناقشة بالفعل واحدة من أثرى المناقشات التي تشرفت بالمشاركة فيها والحديث عن موضوعها باستفاضة وتفصيل.

-2-

ولأن الرواية كانت ذات أبعاد ومستويات عديدة ومركبة ومتداخلة فكان لا بد أولا من تمهيد يحدد هذه المستويات ويجليها دون أن ينزع عنها جماليتها السردية وتدفقها الأسلوبي الذي يكاد يرتقي في بعض المقاطع إلى شعر خالص.

وأذكر أنني في مستهل حديثي قد أشرت إلى أن هناك دائرتين كبيرتين وواسعتين تشملان ما يطلق عليه أدبًا أو أعمالًا أدبية، الدائرة الأولى تتسع لتشمل كتابة التسلية والتشويق والإثارة فحسب، ويدرج أغلبه الآن تحت ما يعرف بالبيست سيللر، أما الدائرة الأخرى أو النوع الآخر فهو الأعمال الأدبية المنتجة للمعرفة «الجمالية والفكرية معًا»، حيث يصبح الأديب متأملًا وفيلسوفًا، متصلًا بالعديد من الحقول المعرفية المتداخلة، وذلك حتى يتسنى له تقديم عمل أدبي يتسم بالرصانة، مع الحفاظ على القيم الجمالية للنص، وبذلك يجمع النص بين القيمتين المعرفية والجمالية.

وفي هذا الإطار رأيت أنه يمكن النظر لرواية «العاصمة» بوصفها رواية غير تقليدية، البعض يسميها «رواية أفكار»، والبعض يسميها «رواية فضاء معرفي»، وقد يراها البعض «رواية فلسفية» خالصة، فالرواية تعكس حقًا أزمة الضمير الأوروبي في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، والضمير هنا ليس بمعناه الأخلاقي وإنما بمعناه الفلسفي، حيث يطرح المؤلف عبر شخصيات الرواية، العديد من النماذج الأوروبية المعاصرة، من إيطاليا واليونان وألمانيا والنمسا واليونان وبولندا، وغيرها.

-3-

يقول مترجم الرواية في تقديمه لها: إن مؤلفها ميناسه تساءل في مقالٍ له عما إذا كانت المفوضية الأوروبية «صالحة لكتابة رواية». وها هو يجيب عن السؤال بروايته تلك التي فاز عنها بجائزة الكتاب الألماني في عام 2017، ثم غَزَت قوائم أفضل المبيعات، وأحدثت نقاشا حيويا في المنطقة المتحدثة بالألمانية.

فبعد استقصاء وبحث استمرا سنوات في بروكسل، وجد الكاتب شكلًا لروايته الحافلة بالشخصيات، وهو ما يذكرنا بالفيلم الكلاسيكي «طرق مختصرة» للمخرج الشهير روبرت ألتمان: فبدلًا من التركيز على شخصية واحدة أساسية، فإننا نصادف هنا -وهو ما يتطابق مع المؤسسة الأوروبية متعددة الأطراف- سلسلة من الأشخاص الفاعلين الذين يتقابلون مع بعضهم البعض في متاهة المؤسسات الأوروبية في بروكسل، إما مصادفة أو بعد ترتيب، فيعقدون تحالفات، أو يتحاربون ويحيكون المكائد لبعضهم البعض».

بحسب الإذاعة النمساوية التي احتفت بالرواية وبصاحبها قالت: ليست «العاصمة» مجرد رواية أفكار أو رواية حقبة بكاملها، كما أنها ليست بارعة فحسب، إنها رواية ممتعة ومحفزة وكاشفة، تظهر فيها أوروبا في ضوء جديد، ووصفتها جريدة (زوددويتشه تسايتونج) الشهيرة بأن (في «العاصمة» يسير روبرت ميناسه متوازنا على حبل عالٍ مشدود بين الرواية البوليسية والرواية الاجتماعية).

-4-

إن «العاصمة» رواية غير عادية كتبها مؤلف بارع أقرأ له للمرة الأولى بفضل ترجمة سمير جريس الزاهية، نحن بإزاء عالم كامل من الشخصيات والوقائع والأحداث والإحالات، جدارية إنسانية هائلة تدور في كواليس واحدة من أعتى المؤسسات الأوروبية الرسمية المجسدة لأزمة وقلق الضمير الأوروبي في العقود الأخيرة، وهي مفوضية «الاتحاد الأوروبي».

تعالج الرواية تجربة الوحدة الأوروبية، كما تجلت فيما يسمى بـ«الاتحاد الأوروبي»، وهي بؤرة الخلق والتجسيد وتفرع الحكايات في الرواية كلها، إنها المعادل الموضوعي للمدينة أو المدن التي تكتظ بالسكان والأجناس والأعراق والأديان، وحدة تحتوي تعددية جنسية، وعرقية، ولغوية، وفكرية!

ولم يكن من نوع أدبي غير الرواية يستطيع أن يقتنص هذا التنوع الهائل، فالرواية وحدها هي القادرة على التقاط النغمات المتباعدة لإيقاع العصر، وحيث الكرنفال - كما يقول «ميخائيل باختين»، يجمع ويوحد بين السامي والوضيع، المقدس والمدنس، الصادق والمحتال، السياسي والمحاور والإداري، كل ذلك في صيغة حوارية، بوليفونية، لا تستجيب لأحادية الصوت، أو مونولوجيته، مستعيضة عن ذلك كله بحوارية ديمقراطية، نجح الروائي تمامًا في الحفاظ على إيقاعها والإمساك بخيوطها التي انطلقت وتشعبت وتفرعت، لكنه ظل ممسكا بالزمام ومتحكما في الإيقاع حتى نقطة النهاية.

استبدل ميناسه بحضور الصوت الواحد الحضور البوليفيني لتعدد الأصوات، حرر نصه الأدبي من أسر النظرة ذات الاتجاه الواحد، ومزج واعيًا بين أشكال وحبكات وراوح بين خصائص الرواية الاجتماعية الخالصة، والفكرية الخالصة، ورواية الشخصيات المتعددة، التي يقود كل منها الآخر، ويحرك اتجاه الأحداث التي تتوالد في متاهة متشعبة تكاد لا تنتهي.

هذه التقاطعات والتداخلات ربما تربك القارئ بعض الشيء (كما رصدها غير قارئ وناقد لماح)، لكن ما لا يجعل هذا الارتباك قريب التحقق قدرة الروائي المكين التي تتجلى في تجميعه النهائي لكل خيوط الرواية، فلا توجد شخصية أفلتت من الراوي أو لم نعرف في النهاية إلى أين وصلت.

وبرغم أن الرواية بكاملها تدور حول وفي فضاءات بيروقراطية ضخمة ومتسعة وديناصورية مرعبة لكن «ميناسه» جسد شخصياته المتعددة بثراء ووعي وخصوصية مدهشة: «مارتن سوسمان» الموظف، أو مفتش الشرطة البلجيكي، والبروفيسور النمساوي، وكثير من الموظفين، لا سيما الإيطالي ستروتسي.

-5-

ولم يكن من السهل ترجمة هذه الرواية إلى العربية مع تشابكاتها السردية واللغوية والأسلوبية إلا إذا تصدى لها مترجم بقيمة ومكانة واقتدار سمير جريس الذي قدم لنا نصًا ممتعًا ومقروءًا بسلاسة ونعومة مع الاحتفاظ بكامل حمولات الرواية وتنوعها وتعددها الأسلوبي والفكري والثقافي.

أثارت هذه الرواية وقت صدورها الكثير من الأصداء والمناقشات، لكن ربما لم يكن أحد يتوقع أن يكون للرواية ظل تنبؤي رفيع يتحرك بخفة ونعومة بين السطور ليشير بعين ساخرة إلى ما أكدته الرواية وتؤكده في السنوات التي تلت صدورها وحتى الآن، إنها رواية أنيقة، رائعة البناء، ومفعمة بالسخرية والأفكار، ولقد كان ميناسه واعيًا ومدركًا أنه يكتب رواية عظيمة بالفعل.