أفكار وآراء

في مأزق الاستعصاء العربي!

10 مارس 2021
10 مارس 2021

محمد جميل أحمد -

منذ حملة نابليون على مصر التي كانت، في صورة ما، صدمة قوية استيقظت منها مصر المملوكية، آنذاك، على الفارق الحضاري بينها وبين العصور الحديثة، ظلت متغيرات المنطقة العربية تختبر ذلك الصراع بين الجديد والقديم على أكثر من اتجاه. وإذا ما تأملنا في قوة الواقع التاريخي الذي بدا عصيًا على التغيير في هذه المنطقة، سنجد أن مفارقة العصور الحديثة اليوم لا تكمن في عجز المنطقة عن الشعور بأمثولة الحداثة بل في قوة واقع التخلف التاريخي وقدرته اللامتناهية على التحور مع متغيرات العصور الحديثة دون إحداث قطيعة يمكن أن يتخلص منها هذا الجزء من العالم المسمى عربيًا بما يجعله أكثر تأهيلًا واندراجًا في شروط العالم الحديث.

ذلك أن هوية الحداثة السياسية لعالم اليوم بدت من الوضوح بمكان قد لا تعجز عن إدراكه حتى مجتمعات الجهل البسيط، أي تلك المجتمعات التي لم تكن تدرك من قبل القوانين التي تجعل منها عبر التعلم، مجتمعات قادرة على السير في أول الطريق إلى التعافي من خلال معادلات تقليد حي وإدراك فطري.

هنا سنجد أن التعقيد الذي يعكسه التخلف المركب هو المأزق الحقيقي، كالتخلف الذي لا يزال يعشش في المنطقة العربية حيال العجز عن تدبير الاجتماع السياسي، لا من حيث القدرة على اكتشاف المعالم النظرية والأصول العامة لذلك الاجتماع، (فقد كانت تلك المعالم والأصول من الوضوح بمكان في القيم الإنسانية التي جاء بها الإسلام منذ القرن السابع، مثل الشورى والعدل والكرامة الإنسانية) بل من حيث العجز عن وضع تلك القيم موضع التنفيذ بسبب استبداد طاول الحياة العربية لحقب متطاولة، وبحيث أصبحت قوة الاستبداد في قدرتها المتراكمة على تبديل حقائق الأفكار في أذهان عامة الناس أقوى بكثير من مطلق القدرة البسيطة على رؤية تلك الحقائق والأصول كمعطيات قابلة للتنفيذ! هكذا سنجد أن الأمر لا يتصل بتجربة ماضٍ حضاري عريق للعرب، مثلًا، أو حتى بتجربة تفوق علمي كان في حقبة من حقب التاريخ علامةً فارقة في المنطقة العربية (بل علامة كان لا بد منها لتجديد انطلاق الحضارة الغربية ذاتها في لحظة تاريخية مفصلية) لكن الأمر يتصل بقوة مأزق التخلف وتراكماته التي تجعل من العجز عن رؤية حقائق الأشياء المجردة في تدبير الاجتماع السياسي كما لو أنها ألغاز ومعميَّات! وفي ظل واقع متخلف ومتطاول لحقب استبدادية تراكمت على هذه المنطقة، كانت صدمة حملة نابليون الفرنسية على مصر، على قوتها وقصر مدتها، أقل بكثير من أن تحدث التفاتة إلى إدراك وتمثل حديث للأصول التي يمكن أن تحرر مجتمعات المنطقة العربية من ذلك الواقع الذي أسلفنا ذكره.

اليوم، فيما يعتبر مقياس الرشد الإنساني لهوية المجتمع الحديث (أيا كان هذا المجتمع وفي أي منطقة من العالم) هو في قدرة ذلك المجتمع على إدارة اختلافاته وتناقضاته السياسية عبر الحوار والعقلانية والسلم، بدلًا من العنف والحرب والصراع، فإن في وسع بعض المجتمعات العربية التي لم تصل حتى اليوم إلى تلك الدرجة من القدرة على إدارة اختلافاتها وتناقضاتها بالسلم والعقلانية والحوار، معرفة تجارب حية في الاجتماع السياسي من بعض مجتمعات غرب إفريقيا، مثلًا، التي انطلقت في تدبير اجتماعها السياسي ليس من أي تجربة حضارية سابقة، كما كان في المجتمعات العربية من قبل، بل فقط من قدرة تلك المجتمعات البسيطة على معرفة ما كانت تجهله عبر التعلم من تجارب العالم الحديث في تدبير اجتماعها السياسي.

هكذا فيما لا نكاد نشهد تغييرات ثورية دموية للحراك شبيهة بتجربة الربيع العربي المتعثرة نحو الديمقراطية في بعض مجتمعات غرب إفريقيا، كالسنغال وغانا، سيكون من المثير والمهم حقًا، الاهتمام بمعرفة طبيعة التحول المطرد لبعض مجتمعات غرب إفريقيا نحو الديمقراطية والاستقرار بطريقة سلسة لم تستدع مخاضًا عسيرًا ومرتبكًا كما هو الحال في التجارب الفاشلة في أغلب البلدان العربية التي شهدت تجربة الربيع العربي كسوريا واليمن وليبيا! إن استعصاء المنطقة العربية، عن الاندراج في الحداثة السياسية، بعد مرور أكثر من 200 سنة على حملة نابليون على مصر 1798 هو استعصاء يكشف لنا عن قوة التخلف وضغط تراكمات طبقاته التاريخية حتى اليوم في هذه المنطقة، أكثر من أي سبب آخر!.