أفكار وآراء

«قرارات باراماونت القضائيَّة»: نهاية نظام الأستوديو في السينما الأمريكية (2)

09 مارس 2021
09 مارس 2021

عبدالله حبيب -

أنهيتُ الحلقة السابقة من هذه المادة بمقولةٍ لِلناقد والمؤرخ السينمائي الأمريكي سيمُن وِتني Simon Whitney يذهب فيها إلى أن الاستفادة التي ظفر بها الموزعون المستقلون نتيجة لصدور وتنفيذ «قرارات باراماونت القضائيَّة» كانت بمثابة «صَكّ الحريَّة». وبمعانٍ عمليَّة، فإن تلك «الحريَّة» كانت كذلك نتيجة لعوامل اقتصاديَّة وإداريَّة معيَّنة؛ أي قوانين توفير الضرائب المتعاطفة، وتقديم «قانون الإنتاج» المَرِن. وفي حالة استوديو RKO Pictures فإن عدم قدرة المنتجين على إنتاج الأفلام كان، في الحقيقة، نتاجاً لحالة الرُّهاب المفرط وأصدائها التي تسببت بها الحملة المكارثيَّة سيئة الصيت (خاصةً فيما يتعلق بهوليوود) ضد كل من يُشكُّ في انتمائه التنظيمي المباشر إلى الحزب الشيوعي الأمريكي (الذي كان نصف أعضاء مكتبه السياسي عملاء مدسوسين للـ FBI أصلا)!، أو حتى مجرد وجود تعاطفات ووجدانات يساريَّة لديه خارج ما يسمح به الحد الأعلى للسقف المنخفض في الحزب الديمقراطي (علينا هنا ألا ننسى أن تلك كانت الفترة التي فرضت الولايات المتحدة نفسها على العالم باعتبارها الامبراطوريَّة الجديدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية: لقد تم تحجيم أدوار «القارَّة العجوز» التي لم تعد إلا مجالاً ورقعة شطرنج للحرب الباردة ضد بلدان المعسكر الاشتراكي).

وفي هذا أيضاً فإن صعود نجم الموزعين والعارضين المستقلين كانت له علاقة وطيدة بانخفاض الإنتاج السينمائي نتيجة لإلغاء الحجوزات المتعددة المحدَّدة، وهذا الإلغاء الناجم عن «قرارات باراماونت القضائيَّة» جعل من الضروري الالتفات بصورة أكبر إلى الميزات التنافسيَّة للإنتاجات السينمائيَّة بصورة منفردة، وعلى حِدة. هذا التطور في مفهوم الإنتاج السينمائي، مصحوبا بالحضور المتزامن والصاعق للتلفزيون في المشهد البصري للثقافة الأمريكية، أدى إلى انقراض الإنتاجات السينمائية ذات الميزانيَّة المتوسطة، وأفلام الدرجة الثانية (ما عُرِف بـ “B Movies”) التي تخصصت فيها بعض الأستوديوهات دون غيرها، ومنها، على سبيل المثال، أفلام الغرب الأمريكي من الدرجة الثانية (“B Western”) وأفلام الجريمة السِّلسِلِيَّة التي تخصص بها استوديو «كولومبيا». وفي استطرادٍ سياقي أظن أن علينا، فيما يتعلق بصورتنا البائسة نحن العرب في السينما الأمريكيَّة، تذكَّر أن «استوديو باراماونت» نفسه قد أنتج فيلم الغرب الأمريكي من الدرجة الثانية «خارجو الصحراء عن القانون» بإخراج هَوَرْد بي برِثِرتُن Howard P. Bretherton في عام 1941. وعلى صعيدٍ شخصيٍّ، فقد أثارني حدَّ الهول لدى «اكتشافي»، خلال فترة الدراسة، هذا الفيلم في مزادٍ علني لبيع الأفلام القديمة والمُهْمَلَة في نُسخ فيديو نادرة أنه يمكن لتحاملات هوليوود العارية، وصفاقاتها الرعناء، أن تزرعنا نحن «العرب الأوباش الشريرون بالفطرة»، هكذا بقدرة قادر، حتى في مكان وزمان «الكاوبوي» الأمريكي، فتأمَّل في هذا يا رعاك الله!.

وعلاوة على ذلك فإن انخفاض الإنتاج السينمائي قد قدَّم صيغة أو معادلة جديدة في السوق هي «أفلامٌ أقل وأفضل». وحقَّا فإن هذه الحكمة قد أصبحت المنطق الجديد للصناعة السينمائية في حالة منتجين عمالقة مستقلين من أمثال صمويل غولدوِن Samuel Goldwyn؛ فقد أخذ هذا يراقب النزعات الجديدة في الإنتاج السينمائي مراقبة دقيقة وحاذقة؛ فصار مقتنعاً أن التلفزيون قد استولى على زمام الأمور فيما يخص تقديم ترفيه جماهيري رخيص الكلفة، ولهذا فإن على السينما أن تقدِّم الآن ترويحا عالي النوعيَّة تتوافق أسعار تذاكره مع نوعيته. وهكذا فإن الاطِّراد المتزايد في ازدياد كلفة إنتاج الأفلام السينمائيَّة، والذي تواكب مع انخفاض الطلب عليها مع تعاظم هيمنة التلفزيون على المشهد الأمريكي، قد أسهم في تشكل وصياغة الاستراتيجيَّة الجديدة.

وعليَّ أن أشير إلى حقيقة أنه، وإضافة إلى العامل التلفزيوني المؤثِّر، فإن «قرارات باراماونت القضائيَّة» قد تزامنت أيضا مع حركة مغادرة السكان للمراكز المدينيَّة والحَضريَّة التي طفقت مشاكلها ومُنَغِّصاتها تتفاقم، وذلك بإنشاء أحياء أرحب، وأقل ضوضاء وتلوثا وجريمة، وأكثر ملاءمة لتكوين الأُسَر وتربية الأطفال، وذلك على أطراف المدن وحواشيها. وبطبيعة الحال فإن هذه البنية السكنيَّة الجديدة قد حتَّمت وأوجدت أشكالها الخاصة من ضروب الترويح، والتسلية، وتزجية أوقات الفراغ. وكل ذلك قد تواكب مع تسيُّد عصر السيَّارات بامتيازٍ أمريكيٍّ شديد (فأنت، إذا ما كان بيتك واقعا على طرف المدينة، لا تستطيع الافتراض أن حافلات النقل العام ستكون متوافرة تحت أمرك وحسب مزاج أسرتك على مدار الساعة ضمن مواقيت تزداد ابتعادا بعد غروب الشمس، وإنما عليك أن تبتاع سيارة خاصة بك). ولذلك فقد ازدهرت سينما السيارات المُقِلَّة بأريحيَّة وانبساط بالغَين أفراد العائلة، أو العشَّاق، أو الأصدقاء (وبين العامين 1948 و1954 بلغ عدد ذلك النوع من دور العرض 2979 دارا في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، وبنسبة بلغت 22٪ من صافي العائدات السينمائية في السوق المحلي). وغني عن القول إن ذلك النوع الجديد من دور العرض السينمائي قد أوجد بيئة ثقافيَّة واجتماعيَّة طال انتظارها بديلا عن دور العرض السينمائية التقليديَّة التي كانت تتراجع في الأعداد والمداخيل، بينما كانت الرأسمالية تتقدم وتتفنَّنُ في اختراع كل الطرق الممكنة لنهش كل دولار ممكن، وبالرضا الكامل للمستهلك.

وبالطبع فإن تسيَّد التلفزيون في مشهد الحياة الثقافيَّة الأمريكيَّة لم يكن نتيجة لـ« قرارات باراماونت القضائيَّة»، غير أن نتائج تلك «القرارات» قد أسهمت في صياغة الطُّرق التي حاولت من خلالها الصناعة السينمائيَّة الأمريكيَّة أن تتعامل مع هذا المنافس اللدود (التلفزيون) في تزامن لا بد أن يُحْفَل له ولدوره؛ فبعد تعاونٍ خجول ومحاولات مقاطعة قامت بها بعض مجموعات العروض السينمائيَّة حدث ما لم يكن من الممكن تفاديه: قام الموزعون الكبار ببيع مكتباتهم السينمائيَّة لصالح قنوات البث التلفزيوني. أما موزعون آخرون مثل Universal وRKO فقد باعوا استوديوهاتهم عالية التجهيز التقني، أو أجَّروها، للمنتجين التلفزيونيين، مريقين بذلك آخر ما تبقى من ماء الوجه. حقَّا، لا تستطيع المفارقة أن تكون فاقعة ومريرة أكثر من هذا!.

ولكن، على الرغم من ذلك، فإن كونْنْت Conant ووِتني يقترحان أن إلغاء «الحجز الحصري» الناجم عن «قرارات باراماونت القضائيَّة» يمكن النظر إليه بوصفه سيفاً ذا حدَّين؛ حيث إن الإلغاء سمح لدور العرض بحريَّة أكبر في اختيار أفلام معينة بدلاً من قبول كل الأفلام، بصالحها وطالحها، من غير تمحيص، وذلك لأنها جاءت ضمن صفقات جمعيَّة. بيد انه، في الجانب الآخر من الأمر، فإن إلغاء «الحجز الحصري» قد أدى ببعض العارضين إلى أن يكونوا ضحايا لظروف غير عمليَّة فيما يخص المال الباهظ والوقت الثمين الذي أدت إليه تلك «الحريَّة». ويستطيع المرء الحدس بأن نقص المهارات، والخبرة، والمعرفة في مواجهة الظروف الجديدة قد أدى إلى تلك النتيجة. ويبقى الأمر انه في حالات أكثر حيث كان إلغاء «الحجز الحصري» إيجابيَّا بصورة لا لبس فيها، فإن تلك «الحريَّة» الجديدة في اختيار أفلام معيَّنة قد أدى إلى مفارقة تجلَّت في احتكارات محليَّة على صعيدي المدن والولايات فيما يخص العروض السينمائيَّة؛ ذلك أن دور العرض قد أصبحت الآن «حرَّة» في رفع أسعارها، خاصة في ظل أنه قد أصبح من الممكن بصورة عامة لدور العرض السينمائيَّة الكبيرة أن تقدِّم مناقصات للعروض الأولى للأفلام، وقد كان هذا نوعا من «العَود الأبدي» الصغير للشيء بوصفه الشيء نفسه.

وفي هذا السياق فقد ارتفعت نسبة تأجيرات الأفلام بسبب المقاربة الجديدة للصناعة السينمائية السابق ذكرها («أفلام أقل وأفضل») التي أدت إلى أثمان متزايدة لأفلام الدرجة الأولى التي كان عدد أقل منها في طور الإنتاج مقارنة بما كان عليه الحال قبل صدور «قرارات باراماونت القضائيَّة». وبالعقبى فإن عدداً من دور العرض الصغيرة قد فشل بسبب عدم قدرتها على دفع الرسوم المطلوبة. وفي هذا فإن كونَنْت، الذي لم يكن متعاطفا أبداً مع شكاوى العارضين المستقلين في حقبة وضع «قرارات باراماونت القضائيَّة» موضع التنفيذ، يعتنق وجهة نظر الموزعين: دور العرض الصغيرة كان مقدَّراً لها الفشل ليس بسبب ارتفاع أسعار التأجيرات (بل إنها، في الحقيقة، كانت ستخفق لا محالة حتى ولو كانت «التأجيرات مجانيَّة» في ضَرْبٍ فنتازيٍّ من القول)، وإنما فشلت اقتصاديَّاً بسبب الانخفاض الحاد بأعداد الراغبين في مشاهدة الأفلام في دور العرض (أذكّر هنا بالعامل التلفزيوني). وبالإجمال فقد كان للمنتجين المستقلين حصتهم من الكعكة؛ ففي العام 1956، مثلاً، كان أولئك المستقلون يقفون وراء ثلثي النتاج السينمائي من الدرجة الأولى، وبعض تلك الأفلام كانت من الأفضل في وقتها («الأفضل» بالمقاييس الأمريكيَّة، طبعاً).

أود التأكيد، في خلاصة أخيرة، على أن «قرارات باراماونت القضائيَّة» قد أثَّرت كثيراً على «ميكانيزمات» وعلاقات المنتجين، والموزعين والعارضين. ومثل توقيت صدور «القرارات» فإن تشكيل تلك العلاقات الجديدة قد تزامنت مع التغيرات التي كانت تجري في المشهد المديني الأمريكي، وبالتالي في تضاريسه الترويحيَّة كما تجسد في حركة الانتقال للسكن في أحياء رحبة تقع على أطراف المدن حيث زيَّنت التلفزيونات غرف الجلوس. حقَّاً، لقد كانت «قرارات باراماونت القضائيَّة» الغاشية الأعتى في تاريخ السينما الأمريكيَّة.