أفكار وآراء

رقصة بايدن / نتانياهو.. بين حل الدولتين والجنائية الدولية !!

08 مارس 2021
08 مارس 2021

د. عبد الحميد الموافي -

عندما أجل الرئيس الأمريكي جو بايدن، بعد توليه منصبه، اتصاله برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، وذلك على خلفية العلاقات الحميمة والعميقة بين نتانياهو والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حاول نتانياهو تغطية قلقه بالقول إنه متأكد من أن بايدن «صديقه منذ سنوات طويلة وصديق إسرائيل.. سيتصل به حتما»، وللتغطية على هذه النقطة، ورغبة في التقليل من أهمية الفجوة الزمنية المرتبطة بالاتصال بين بايدن ونتانياهو، المقبل على انتخابات عامة يوم 18 مارس الجاري، قام أكثر من مسؤول أمريكي رفيع بالاتصال مع نتانياهو، إلى جانب إعلان البيت الأبيض عن ما يطمئن إسرائيل حيال موقف إدارة بايدن من الخطوات التي اتخذها ترامب، خاصة ما يتصل بأنها ستبقي على السفارة الأمريكية في القدس ولن تنقلها إلى تل أبيب، ولكنها اتخذت في الوقت ذاته خطوات مهمة حيال الجانب الفلسطيني منها الإعلان عن إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الأمريكية في واشنطن، وإعادة المساعدات الأمريكية إلى وكالة «غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - الاونروا»، واستئناف الاتصالات مع السلطة الوطنية الفلسطينية مرة أخرى والتي كانت السلطة الفلسطينية قد أوقفتها احتجاجا على صفقة القرن ومقترحات جاريد كوشنر سيئة السمعة.

وبالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية المعروفة والمستقرة لإسرائيل في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وكعنصر يزداد أهمية في السياسات الداخلية الأمريكية أيضا، أكد وزير الخارجية الأمريكية انتوني بلينكن، في اتصاله مع نتانياهو على الالتزام الأمريكي بأمن إسرائيل والشراكة معها، وتكرر هذا التأكيد مرة أخرى خلال اتصال كمالا هاريس نائبة الرئيس بايدن في اتصالها مع نتانياهو يوم الجمعة الماضية، وقد اقترن هذا الإعراب بإشارة دبلوماسية لينة من جانب «بلينكن» إلى أن واشنطن ترى أن مصلحة إسرائيل «ترتبط بحل الدولتين» وأن أمريكا تريد ازدهار إسرائيل «والفلسطينيين أيضا»، وهو ما أشارت إليه كمالا هاريس كذلك وفقا لما تم إعلانه بشأن هذا الاتصال الأول من نوعه منذ مجيئ إدارة بايدن.

ومع الوضع في الاعتبار أن الرئيس الامريكي جو بايدن يعد من كبار المسؤولين الأمريكيين، الذين يعرفون الشرق الأوسط ومشكلاته وتعاملوا مع مختلف التطورات خلال الخمسين عاما الأخيرة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو إلى أي مدى سيعيد بايدن الاعتبار إلى حل الدولتين ؟ وهل لا يزال هذا الحل قابلا للتطبيق العملي، خاصة في ظل سياسة الاستيطان الوحشية التي تنفذها إسرائيل دون توقف، وبنشاط يتزايد بالفعل في الآونة الأخيرة ؟ ومع أن إدارة بايدن قدمت من جانبها ما يطمئن نتانياهو وإسرائيل بكل أطيافها، وهو «الالتزام بأمن إسرائيل والشراكة معها»، إلا أن ما تقوم به إسرائيل على الأرض في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتطورات التي تشهدها المنطقة تثير الكثير من التساؤلات، والتقاطعات والتعقيدات في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وما يمكن وصفه بالرقصة بين نتانياهو وبايدن، والتي لا تتناغم فيها حركة كل منهما مع الآخر برغم الحرص المتبادل، إعلاميا على الأقل، لإظهار غير ذلك.

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: أنه إذا كانت إدارة بايدن قد أنهت ما سمي بصفقة القرن الترامبية، وحسنا فعلت، إلا أن عودتها إلى خيار حل الدولتين كحل ممكن للقضية الفلسطينية، وهو ما قدمه وزير الخارجية الأمريكية بكلمات ناعمة تعبر عن انه يحقق مصلحة إسرائيل وأمنها الكامن، في جانب منه على الأقل، في إيجاد دولة فلسطينية قابلة للحياة، هذه العودة لا تعني أن الطريق عاد مفتوحا أمام حل الدولتين، الذي تؤيده قرارات الشرعية الدولية وأوروبا وروسيا والصين والدول العربية وفلسطين بالطبع، وذلك لسبب بسيط هو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو لم يتحمس ولم يتبن أبدا هذا الخيار، وحاول المراوغة دائما في التعامل مع التأييد الدولي لهذا الخيار، وعلى ذلك فإنه سيلعب نفس اللعبة، وسيستغل الانتخابات العامة القادمة في إسرائيل ومحاولات تشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة، والتي يعتبر نفسه الأقدر على تشكيلها سواء في إطار حكومة وحدة وطنية أو في إطار حكومة أغلبية بسيطة، ليراوغ مرة أخرى، وليلعب بورقة العودة إلى المفاوضات مع الفلسطينيين للإبقاء على موقفه غائما وغير محدد بشكل دقيق وبما يخدم مناوراته الداخلية ومع إدارة بايدن أيضا. وهنا تحديدا فإن ورقة الاستيطان الإسرائيلي والسير في مخططاته بأكبر قدر من النشاط على الأرض، يعد ورقة مهمة على المستوى العملي والسياسي أيضا، لأن مخططات الاستيطان تعرقل عمليا حل الدولتين، وذلك من خلال العمل على ضم اكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية وعدم إتاحة الفرصة لاتصال أرضي آمن بين ما يتبقى من أراضي الضفة الغربية وبين قطاع غزة، بالإضافة إلى تطويق القدس الشرقية بسلسلة مستوطنات تحول دون إعادة ربطها بسهولة بمحيطها الأرضي في الضفة الغربية المحتلة، ومن ثم فإن أية مفاوضات قادمة مع الفلسطينيين ستضعهم وجميع الأطراف أمام حقائق على الأرض تحول عمليا دون تنفيذ حل الدولتين بالشكل الذي يتطلع إليه الفلسطينيون والعرب ومؤيدوهم، خاصة وأن نتانياهو نفسه أعلن وبوضوح انه لن يتم إجلاء أي مستوطن من أي مستوطنة، وهو ما كان بمثابة دعوة للمتطرفين المستوطنين للتوسع في إنشاء مزيد من البؤر الاستيطانية في مختلف مدن الضفة الغربية المحتلة. وبالطبع لن يستطيع نتانياهو التراجع عن ذلك، ولن تستطيع أية حكومة إسرائيلية سوى وضع الواقع على الأرض في اعتبارها. وهذه مشكلة حقيقية للفلسطينيين وللإدارة الأمريكية وللعرب ومختلف الأطراف الدولية في الفترة القادمة. من جانب آخر فإنه بالرغم من ازدياد الدعوات داخل إسرائيل للتحذير من التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وهو تحذير لا ينطلق من رغبة في احترام المصالح الفلسطينية، ولكنه ينطلق من خوف حقيقي على مستقبل إسرائيل، ومن أدراك مخاطر التحول إلى دولة واحدة تضم الفلسطينيين، ومن ثم تجذير سياسات الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، إلا أن هذه الدعوات تتلاشى أمام سعار المستوطنين، وأمام التأييد الحكومي لمخططات الاستيطان خاصة من جانب الليكود والأحزاب اليمينية التي باتت تسيطر على السياسة الإسرائيلية وهو ما سيستمر لعدة سنوات قادمة على الأرجح. ولأن اليمين الاسرائيلي يضع ضم مزيد من أراضي الضفة الغربية فوق أي اعتبار آخر، وبغض النظر عن أية نتائج ستمس بالضرورة بأمن إسرائيل وباستقرارها وبالعلاقات بين مكوناتها الديموغرافية وبمستقبلها السياسي أيضا، وذلك من منطلق أنهم أصحاب السلطة في إسرائيل، إلا أن نموذج جنوب إفريقيا لا ينبغي أن يغيب عن تفكير كل الأطراف. وعلى أية حال فإن ما يتصل بحل الدولتين سيكون عنصر خلاف بين نتانياهو وإدارة بايدن، وبينه وبين الفلسطينيين ومختلف الأطراف المعنية خلال الفترة القادمة.

ثانيا: إنه في الوقت الذي تتسع فيه الفجوة، أو على الأقل عدم التطابق في المواقف، بين إسرائيل وإدارة بايدن بالنسبة لكيفية التعامل مع الملف النووي الإيراني وآفاق العلاقات الأمريكية الإيرانية أيضا، فإن الطرفين التقيا على معارضة التحقيق الذي أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا عن فتحه حول جرائم الحرب التي وقعت خلال حرب عام 2014 ضد قطاع غزة. وبغض النظر عن أن «بنسودا» تشجعت على فتح هذا الملف قبل أن تترك موقعها في منتصف يونيو القادم، وهو ما يحمد لها، فإنه من الواضح أن هناك انزعاجا إسرائيليا كبيرا، خاصة مع إشارة بعض الصحف الإسرائيلية إلى أن نتانياهو وبيني جانتس وموشيه يعالون وغيرهم من كبار المسؤولين والقادة العسكريين يمكن أن يكونوا موضع اتهام وملاحقة من جانب المحكمة (صحيفة حيروزاليم بوست الإسرائيلية).

ومع إدراك أن الوصول إلى بلورة اتهامات محددة سيستغرق بالضرورة وقتا غير قليل، وأن الأمر سينتقل بالتأكيد إلى المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية الدولية القاضي البريطاني «كريم خان» الذي سيتولى منصبه خلفا لفاتو بنسودا في منتصف يونيو القادم، فإن إسرائيل لن تدخر وسعا في شن حرب على فاتو بنسودا التي فتحت الطريق للتحقيق في الجرائم الإسرائيلية والفلسطينية - في حالة وجودها - وإذا كانت إدارة ترامب قد فرضت عقوبات على «بنسودا»، فإن واشنطن وتل ابيب ستعملان بكل السبل من أجل عرقلة التحقيق الذي بدأه مكتب بنسودا. والمرجح أن الأمر سيكون ممكنا بعد أن يتولى «كريم خان» مهام منصبه في يونيو القادم، خاصة وانه تبني مهام الدفاع عن عدد من مجرمي الحرب الأفارقة في السنوات القليلة الماضية، فضلا عن محاولة تحريك الضغوط على المحكمة الجنائية الدولية بمختلف السبل السياسية وغيرها، وذلك من خلال الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، ومن خلال الضغط على السلطة الفلسطينية، وربما ربط عملية العودة للمفاوضات بموقفها من التعاون مع المحكمة. وقد حذر نتانياهو بشكل صفق من تعاون السلطة الفلسطينية مع إجراءات التحقيق.

جدير بالذكر أن الضغوط الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة على بنسودا وعلى قضاة المحكمة الجنائية الدولية الـ 18 وعلى دولهم ستتعزز بما ستمارسه إدارة بايدن من جانبها في هذا المجال، غير أن إدارة بايدن ستجد نفسها على الأرجح في نقطة تقاطع حادة بين ما تتبناه من عودة لاحترام القانون والقيم الأمريكية وتعزيز المثل الأمريكية في هذا المجال على المستوى الدولي، وبين معارضتها لتحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب التي وقعت في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 2014 والتي تتفق مع قواعد القانون الدولي. ومن المؤكد أن تلك المعارضة لا يمكن تبريرها بأنها معارضة لامتداد ولاية المحكمة لتشمل الأراضي الفلسطينية، لأن الأمرين لا ينفصلان. وبذلك فإن إدارة بايدن قد تجد نوعا ما من الحرج وستلجأ على الأرجح إلى التحرك غير العلني لعرقلة الأمر أو استنفاد الوقت حتى يباشر كريم خان المدعي الجديد للمحكمة مهامه بعد نحو ثلاثة أشهر.

ثالثا: إن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، والتي تعمل إدارة بايدن على إرسائها في إطار يختلف عما تبنته إدارة ترامب ستكون محصلة لتفاعل المواقف الأمريكية والإسرائيلية بشكل أساسي بشأن الملف النووي الإيراني، وأنشطة المحكمة الجنائية الدولية المتصلة بجرائم الحرب الإسرائيلية، وإعادة الاعتبار، ولو نظريا، لخيار حل الدولتين بالنسبة للقضية الفلسطينية، واتفاقات السلام - التطبيع - مع إسرائيل، ومحاولات إدارة بايدن إعادة الاستقرار إلى الشرق الأوسط من خلال العمل على حل الخلافات القائمة وإنهاء الحروب وحالات التدهور التي تعانيها عدة دول في المنطقة، وهو ما سيتطلب التعاون والتعامل مع الدول العربية المعنية، ولكن إدارة بايدن ككل الإدارات الأمريكية السابقة، تدرك جيدا انه لا توجد مشكلات ذات وزن في التعامل مع الدول العربية تحت أية ظروف، وانه بمقدورها في النهاية احتواء أية تقلصات - وليس خلافات بالمعنى الحقيقي - وذلك لاعتبارات كثيرة معروفة منذ سنوات، بغض النظر عن أية تصريحات أو عنتريات إعلامية، لا تتجاوز مخاطبة الداخل، وهو ما يدركه الجميع بمن فيهم الأمريكيون أنفسهم. وعلى ذلك فإن رقصة نتانياهو/ بايدن من شأنها أن تلقي الكثير من الضوء على ما يمكن أن تشهده المنطقة في الفترة القادمة، خاصة إذا نجح نتانياهو في تشكيل الحكومة الإسرائيلية بعد الانتخابات القادمة، إذ لا يوجد منافسون أقوياء في مواجهته.