1599824
1599824
الثقافة

مرفأ قراءة.. إبراهيم أصلان ومبادئ هيمنجواي الإبداعية

06 مارس 2021
06 مارس 2021

إيهاب الملاح -

  • 1 -

    في الثالث من مارس عام 1935 ولد إبراهيم أصلان؛ واحد من أنبغ وأنبه جيل الستينيات، وأقلهم بحثا عن الدعاية، أو حرصا على الظهور، ومن أقلهم أعمالا أيضا، ورغم ذلك استطاع عبر رحلة حياته التي امتدت طوال ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن أن يكرس لتجربة إبداعية شديدة الخصوصية والفرادة والتميز؛ تجسدت في ثلاث روايات ومثلها أو يزيد قليلا من المجموعات والكتب القصصية ومثلها من نصوص المقالات والسرد الحر التي هي مزيج ساحر من المقال واللوحة القصصية والبورتريه الفني لا يملك إلا إبراهيم أصلان فقط إبداعه بهذا الجمال وهذه الشاعرية.

    نشر إبراهيم أصلان قصته الأولى رائحة المطر في مجلة (جاليري 68)، وفي فبراير من العام 1971 صدر عدد خاص من المجلة الطليعية يضم ملفا كاملا وخاصا عن قصص إبراهيم أصلان القصيرة التي لم يكن يكتب سواها في ذلك الزمان البعيد. وكان الملف يضم قصص: «الجرح»، و«الرغبة في البكاء»، و«الملهى القديم».

    وكأن هذا الملف كان إيذانا بإعلان تميز وانفراد هذا الكاتب الشاب من بين كل أقرانه وبين أسماء جيله؛ جيله الستينيات الأشهر، وفي الوقت ذاته أرفقت بالقصص المنشورة ثلاثُ دراسات نقدية (لكل من إدوار الخراط وخليل كلفت وغالب هلسا) كانت تمثل في وقتها إضاءات مهمة على إبداعات الكاتب الواعد.

    جمعت قصص إبراهيم أصلان الأولى في مجموعته «بحيرة المساء» التي صدرت عن الهيئة العامة للكتاب في مطالع الثمانينيات من القرن الماضي، وهي المجموعة التي أثنى عليها في حينها شاعر العربية الأكبر في زمنه صلاح عبد الصبور، ثناء جميلا وتأكيدا واضحًا لأهميتها.

  • 2 -

    ومنذ بداياته، بدا وعي إبراهيم أصلان بأدبيات الكتابة المغايرة وجمالياتها والبحث عن طريق جديد للقصة المصرية (والعربية) ولأنه كان عميق النظر والتأمل، فقد تحرر أيضا، ومنذ بداياته، من أسر الرؤى الضيقة والمغلقة التي وقع فيها غيره بين اعتناقات دوجماطيقية للواقعية الاشتراكية (مثلا) أو الانجراف المتطرف لغوايات التجريب اللغوي والجمالي التي كانت تغري بعض الكتاب بإغواءاتها الزائفة ومخايلاتها التهويمية الغامضة.

    وهكذا كان إبراهيم أصلان واعيا تماما بأنه يؤسس لكتابة حداثية بكل معنى الكلمة (كما يصفه صديقه الناقد والأكاديمي جابر عصفور) الذي يقول عن كتابة أصلان في بداياته «ومن يومها تعلقت بكتابة إبراهيم أصلان التي كانت لا ترضى رطان الواقعية الاشتراكية، ولا تأبه بها، بل تمضي جسورة في مجرى خاص بها، تحفره في أدب، مؤسسة لكتابة حداثية بكل معنى الكلمة، مؤكدة انعدام التواصل في العالم، غروب زمن قديم كالملهى القديم في مدخل إمبابة، وظهور زمن جديد لا يحفل بزمن مضى، زمن قاس في علاقاته وشروطه وما يحمله من حتمية البحث الجديد عن المعنى والمغزى».

    وكانت لغة الكتابة «الأصلانية» بالغة التكثيف والاقتصاد، تعطيك بالقليل من الكلمات الكثير من المعاني. وكان واضحا، منذ ذلك الزمن البعيد، حرص إبراهيم أصلان على تشيئ المدركات التي ينقلها إلى الورق بكل حواس السمع والشم واللمس والنظر.. إلخ.

  • 3 -

    ومن السطر الأول لأصلان؛ بدا حرصه على هجر اللغة البلاغية الكلاسيكية تماما، واستخدام لغة عارية، مغسولة من التشبيهات والاستعارات والكناية، حتى تلك التي كان يستخدمها نجيب محفوظ، فلم يكن يقبل أن يكتب شيئًا من قبيل: "وكان المغيب بقطر سمرة هادئة"، إنما يكتب "فتحت عيني على صوت دقات خاصة، كان الوقت ليلا، ولكنني رأيت قدرا من الجدران الوردية اللون، وكذلك المدخل الداكن".

    وتمضي بداية قصة "الجرح"، مثلا، كما تنتهي نهاية قصصه "الملهى القديم" بالأسطر ذات الجمل الموجزة نفسها. قصيرة حقا، لكن مبلورة كل دلالات السرد بلا زخرفة: "وبينما هو يبتعد في خطواته القصيرة المتمهلة، أراح البائع ظهره على جدار الكشك الخشبي، وخفقت مصابيح الإضاءة وشحب وجه السماء، وهبت نفحة هواء، أطاحت بعلبة سجائر فارغة من على الطوار، ثم عاد السكون يغلف الميدان".. والحرص على قمع المجاز الذي حاول أن يطل من جملة «وشحب وجه السماء» لافت ودال على نوع من الحرص على اللغة العارية التي يتشيأ بها كل شيء.

    كان أصلان من المؤمنين بأنه لا يوجد أسلوب فني واحد يمكنه أن يفي باحتياجات تعبيرية كاملة، وكان يرى أن الإمكانات والحلول الفنية التي قد يلجأ إليها كاتب ما ليست مفيدة بالضرورة لكاتب آخر، وهي علي أية حال، ليست لجوءًا ولا يجب أن تكون كذلك بل هي تمثل في حقيقتها استجابة لطبيعة الكاتب نفسه وأغراضه الفنية، بحيث يمكن القول بأنها تمثل لدى البعض مطلبًا وجوديًا.

  • 4 -

    وهذا بالضبط ما تجسد عينيا في إبداعات أصلان القصصية (والروائية وحتى كتابة المقال فيما بعد). كان رحمه الله من المعجبين بهمنجواي (1899-1961) الكاتب الأمريكي الشهير، وكان يرى أن المبادئ التي اتبعها في مجمل إبداعه تكاد تكون المبادئ الوحيدة الملائمة للمولعين بالقبض علي المشهد في حال حدوثه، واستبقاء اللحظة الراهنة، إلى الأبد، هؤلاء الذين يظنون أن القيمة الجمالية في قصةٍ ما ليست في دغدغة مشاعر قارئ مستكين واثارة لواعجه، بل هي في طبيعة العلاقات داخل هذه القصة، وتفاعلاتها الداخلية إذ هي تصعد بنا نحو ذروة ما.

    هذه المبادئ التي استوعبها أصلان بعمق وطبقها بوعي يقول عنها: إنها السعي نحو الحقيقة اللحنية للحظة متلاشية حسب كونديرا، باعتبار أن أي عنصر غير مشهدي هو ثانوي تمامًا، الأمر الذي يعكس قيمة ما هو درامي وليس ما هو واقعي لأنه ليس هناك ما هو أكثر خداعا من واقعية الحياة ذاتها، في مقدمة من يصابون بهذا الولع هم أصحاب الذاكرة البصرية، الذين يسعون عبر عيونهم، وتبقى مشكلة هؤلاء أنهم إذ يرغبون اعتقال اللحظة في مشهد مرئي يستخدمون لغة ليست هي الوسيط الأمثل لتقديم هذا المرئي، فالكلمات ليست كادرًا ولا لوحة وهذه حكاية أخرى.

    ويحكي أصلان عن كارلوس بيكر (كاتب سيرة هيمنجواي) أن هيمنجواي كان قد أخذ نفسه بالشدة المتناهية في تمثل الصور التي يراها في الحياة ويعيد إنتاجها، وهذا المأخذ المتشدد في بناء القصة القصيرة على وجه الخصوص هو الذي علمه حرفته ومكنه من استخراج الكثير من أقل القليل، كما أكسبه القدرة على نقل انطباعاته بايجاز قاصدًا أن يحشد التأثير باعتماد الاقتصاد في القول، والبساطة التي تدرك أن البلاغة في عمل فني هي بلاغة الحالة التي يقدمها، وليست بلاغة أي شيء آخر: الأمر الذي يعكس ثقته في قدرات قارئه باعتباره شريكا في عملية الخلق ذاتها.

  • 5 -

    أدرك أصلان أن همنجواي في قصصه القصيرة لم يهدف أبدًا أن يبلغنا بالانفعال بل أرادنا أن (نعيشه) وهذا ما تألق فيه أصلان تماما. كان يرد الإحساس إلى العناصر الأولية التي كونته، ثم ينشئ من هذه العناصر عمله القصصي، وهكذا يتاح لهذه العناصر أن تنبت بداخلنا كقراء وتفجر الإحساس الذي لم يشأ الكاتب أن يبلغنا به، وإنما الذي شاء لنا أن نعيشه.

    هذا النهج في الكتابة، كما يرى أصلان، أراد أن يكون أعمق تأثيرا، ولنا أن نتذكر أن هناك من يعتقدون أن الناس ليست بحاجة لأعمال فنية تفكر بدلا منها أو تتخيل بدلا منها، وهكذا تعفينا من التفكير، كما تعفينا من الحلم، ولكننا بحاجة إلى تلك الأعمال التي تحترم قدرتنا على التفكير وقدرتنا على الحلم. بحاجة إلى أعمال توسع أمامنا الأفق، لكي نفكر نحن لأنفسنا، ونتخيل لأنفسنا، ونصبح مؤهلين هكذا لكي نعمل بما فكرنا فيه، ونحقق ما حلمنا به.

  • 6 -

    لقد حرص إبراهيم أصلان على حياته المتواضعة الزاهدة طوال عمره، لكن «الصارمة» في الموقف السياسي الذي لم يهادن فيه قط، فقد كان رجل موقف بحق، وفيا لأصحابه الذين أحبوه، ولقرائه الذين خلدوه، دون أن تمنعهم مشاعرهم الفياضة من وصفه بأنه ظلَّ واحدًا من أبناء الجيل الذي وصفه أمل دنقل بـ «جيل الألم» العظيم.