أفكار وآراء

ســوق الــعــمــل

01 مارس 2021
01 مارس 2021

د. عبدالملك بن عبدالله الهنائي -

على مدى أكثر من خمسين عاما وتسع خطط خمسية تنموية؛ مرت عمان بعدد من التجارب والمحاولات لتنظيم سوق العمل بها، والمقصود به هنا سوق العمل للقطاع الخاص والأهلي وحاجتهما من الأيدي العاملة. ولا تكاد تمر خطة خمسية إلا ويتم فيها إدخال تعديل على قانون العمل ولوائحه أو إصدار قانون جديد له، وآخرها ما أدخل مؤخرا على رسوم مأذونيات استقدام الأيدي العاملة من الخارج. وعلى كثرة تلك الإجراءات والتجارب فإنها متشابهة أو متطابقة إلى حد بعيد، ذلك لأنها جميعا تصاغ من زاوية الاقتصاد الجزئي microeconomics، أي على أساس التعامل مع حاجة المؤسسة أو الشركة من الأيدي العاملة، وقليلا ما ينظر إلى الموضوع من أفق الاقتصاد الكلي macroeconomics. والركيزة الأساس لقانون العمل فيما يخص الأيدي العاملة الأجنبية التي تحتاجها المؤسسات والأفراد هو وجود ما يسمى بـ«الكفيل» الذي من واجباته إثبات حاجته إلى العامل واستخراج كافة التراخيص اللازمة لاستقدامه، وضمان عدم تشغيله من قِبل شخص أو جهة أخرى إلا بعقد، و كذلك مسؤوليته عن العامل أمام القانون.

ويستخدم في تطبيق تلك السياسات والإجراءات ثلاث وسائل: الوسيلة الأولى هي «التخمين» في تقدير حاجة الشركة أو المؤسسة أو الأسرة أو الفرد من الأيدي العاملة، والوسيلة الثانية إلزام المؤسسة أو الشركة بتعيين مواطنين في مقابل الحصول على مأذونية لاستقدام عمال أجانب، حتى إن كان تعيين العمانيين في كثير من الأحيان يزيد عن حاجة المؤسسة أو الشركة، والوسيلة الثالثة فرض رسوم على مأذونيات العمل للتحكم في أعداد الأيدي العاملة الوافدة برفع تكلفة استقدامها. وعلى مدى العقود الخمسة الماضية تزايدت أعداد الأيدي العاملة الوافدة المستقرة في البلاد، وظهر ما سمي بالتجارة المستترة، التي على سوء سمعتها، لها بعض الآثار الإيجابية مثل توفير بعض الخدمات الرخيصة، خاصة في قطاع البناء وفي الخدمات العامة التي لا تتطلب عمالة ماهرة مثل الزراعة والصيد والنظافة، وفي مقابل «التجارة المستترة» ظهر في الآونة الأخيرة ما يسمى بـ«البطالة المقنعة» في بعض المؤسسات والشركات التي اضطرت إلى تعيين قوى عاملة تزيد عن حاجتها. وكما أشرنا فإن «السياسات» التي اتبعت حتى الآن لتنظيم سوق العمل حاولت مقاربة الموضوع من زاوية الاقتصاد الجزئي وقليلا ما فعلت ذلك على صعيد الاقتصاد الكلي، وهو أمر لا بد منه لنجاح أي سياسة تهدف إلى تنظيم سوق العمل، وحيث إن النموذج الاقتصادي المتبع في السلطنة على مدى ما يزيد عن أربعين عامًا يعتمد بشكل كبير على الإنفاق الحكومي، وهو إنفاق في معظمة على مصاريف متكررة أو على مشروعات كلها في البنى الأساسية مثل الطرق و الموانئ والمطارات و المباني الحكومية، و جميعها مشروعات تحتاج إلى القليل من الأيدي العاملة عالية المهارة والكثير من الأيدي العاملة شبه الماهرة. وفي وقت تغيرت فيه نوعية القوى العاملة من المواطنين ومستويات تأهيلهم وكفاءاتهم بفضل تطور التعليم في البلاد، فإن التجارب والسياسات التي اتبعت لم تؤدِّ إلى إيجاد فرص عمل كافية يُقبل عليها المواطنون أو يَقبلون بالأجر المناسب لطبيعتها، إلا في قليل من المهن عالية الأجور، كما أنها لم تؤدّ في أكثر الأحيان إلى تلبية حاجة القطاع الخاص من الأيدي العاملة الأجنبية، وكثيرا ما حاول أصحاب الأعمال المبالغةَ في تقدير احتياجاتهم منها للحصول على جزء مما يطلبون. ومن المحاولات الأخيرة لخلق فرص عمل للمواطنين، رفع تكلفة استقدام الأيدي العاملة الأجنبية في بعض المهن عن طريق رفع رسوم مأذونيات استقدامهم، وهذا في نظري سيف ذو حدين، فهي من ناحية تزيد من تكاليف الإنتاج والخدمات في الداخل وتضعف تنافسية الصادرات في الأسواق العالمية مما يؤثرا سلبًا على الاقتصاد بشكل عام على المدى الأبعد لأنه وفقًا للقواعد المعروفة فزيادة التكاليف لا تؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي، وعليه فهي لا تؤدي إلى زيادة فرص العمل، ومن ناحية أخرى فإن زيادة الرسوم على مأذونيات استقدام الأيدي العاملة ستجعل الميزانية العامة تعتمد بشكل ما على إيرادات لا تعدو كونها «ريعا» يصعب استدامته إلا بالإبقاء على عدد كبير من الأيدي العاملة الأجنبية في البلاد، مما قد يؤثر سلبا على النواحي الاجتماعية و الديموغرافية و الأمنية في البلاد، ومما لا جدال فيه أن عمان ستظل لسنوات قادمة في حاجة إلى قوى عاملة أجنبية لأسباب اقتصادية وجيهة، سواء من جوانب الإنتاج أو من جانب الاستهلاك. و ربما أن البعض هلل و فرح لمغادرة عشرات أو مئات الآلاف من الأجانب في الأشهر الماضية، لكن الحقيقة أن لمغادرتهم جوانب إيجابية و جوانب سلبية في آن معا، فمن الآثار السلبية انكماش بعض القطاعات مثل قطاع النقل وقطاع تجارة التجزئة وقطاع العقار، إلى جانب ارتفاع أسعار بعض الخدمات مثل البناء والتشييد وخدمات الصيانة والتنظيف. إن حل مشكلة سوق العمل لا يمكن إلا بمعالجة الموضوع على المستويين الجزئي والكلي من الاقتصاد، فعلى مستوى الاقتصاد الجزئي يتم تقدير احتياجات الشركات والمؤسسات من الأيدي العاملة، وعلى مستوى الاقتصاد الكلي يجب عند وضع الخطط تقدير احتياجات الاقتصاد والمجتمع منها ككل، بحيث يتم توفير ما يمكن توفيره من الأيدي العاملة الوطنية أولًا ثم السماح بشغل ما لا يمكن توفيره منها بقوى عاملة أجنبية، ويجب أن يتم ذلك في كل خطة تنموية وتقسّم على أساس سنوي.

وبما أن الخطط الخمسية والسنوية تضع تقديرات لمعدل النمو الاقتصادي وتحدد القطاعات المستهدفة للنمو وكذلك المشروعات المتوقع إقامتها خلال الخطة، فإنه من السهل تقدير الاحتياجات من الأيدي العاملة وأنواع المهن المطلوبة والعدد الذي يجب أن يشغله منها المواطنون، وتلك التي يمكن استقدام أيد عاملة لها من الخارج. لكن اتخاذ مثل هذه السياسة يجب أن يتم على مستوى الجهات المعنية بالتخطيط الكلي وليس على مستوى الجهة المعنية بإصدار المأذونيات والتراخيص، أو الجهات المعنية بالقطاعات الاقتصادية المختلفة كل على حدة. وإذا تم تخطيط الأيدي العاملة بهذه الكيفية فيمكن التخلي عن شرط وجود «كفيل» والسماح بدلًا من ذلك للسفارات العمانية في الخارج بإصدار تأشيرات دخول للأعداد التي يحتاجها الاقتصاد من الأيدي العاملة الأجنبية وفقًا للضوابط التي توضع لاستقدام الأيدي العاملة من كل دولة، ويجب أن يراعى في إصدار تأشيرات الدخول والعمل في السلطنة أن لا تزيد القوى العاملة الوافدة من كل دولة عن نسبة معينة من مجموع الأيدي العاملة الوافدة في البلاد، وذلك للتخفيف من الآثار السلبية التي تنتج عن تركز استقدام أعداد كبيرة من جنسية واحدة أو عدد قليل من الجنسيات، وأن تحدد المهن والوظائف التي يمكن للأجانب شغلها بحسب حاجة الاقتصاد.

كما أنه من الأجدى أن يتحمل العامل الأجنبي دفع الرسوم اللازمة لحصوله على تأشيرة الدخول في مقابل أن تترك له حرية الانتقال من صاحب عمل إلى آخر. إن توفر أيد عاملة منخفضة التكاليف، سواء من ناحية الأجر أو من ناحية تكلفة استقدمها من الخارج، ميزة يجب استغلالها لتحسين تنافسية الاقتصاد الذي هو بحاجة مستمرة إلى قوى عاملة شبه ماهرة أو قليلة المهارة في كثير من المهن، كما أن قطاعات مثل التشييد والزراعة والصيد والرعي ستبقى بحاجة إلى قوى عاملة منخفضة التكاليف، وهذه القطاعات جميعها عناصر أساسية للتنويع الاقتصادي. أما المهن التي تحتاج إلى مهارات وكفاءات متوسطة أو عالية فيجب إشغالها بالمواطنين أولاً، حيث إن أعداد الباحثين عن عمل من ذوي المؤهلات الجامعية وما فوق الجامعية في تصاعد.

خلاصة القول: إن أي سياسة لتنظيم سوق العمل يجب أن تكون في إطار التخطيط الكلي للاقتصاد، و يجب أن ترتكز على ركيزتين ثابتتين في السياسة الاقتصادية والخطط التنموية للسلطنة؛ أولاهما إيجاد فرص عمل مناسبة للمواطنين من حيث نوعية المهن ومستوى أجورها، وثانيهما المساهمة في التنويع الاقتصادي وما يعنيه ذلك من زيادة تنافسية الاقتصاد من خلال تسهيل الاستعانة بالأيدي العاملة الأجنبية منخفضة التكاليف.

باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية