أفكار وآراء

التلاعب بورقة حقوق الإنسان لتبرير التدخل الخارجي

28 فبراير 2021
28 فبراير 2021

د. عبد العاطي محمد *

ليست هذه المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تتعرض فيها شعوبنا وحكوماتنا للتدخل السافر في شؤونها الداخلية عبر ما يسمى بورقة حقوق الإنسان. يحدث هذا الآن مع وجود إدارة حزبية ديمقراطية تحكم البيت الأبيض يقودها جو بايدن، وحدث منذ سنوات قليلة مضت من جانب إدارة أوباما الديمقراطية أيضا. ولن تتوقف المهمة لاحقا سواء من جانب بعض من يكونون في الحكم داخل واشنطن أو من جانب حلفائها الغربيين كلما تلاقت التوجهات السياسية بينهم، لأن هناك «لوبيا» من جماعات مصالح تشكل من سنين بنى وجوده في الحياة السياسية وفي مواقع اتخاذ القرار، وعمل على تحقيق مصالحه، وذلك من خلال استغلاله السياسي لورقة حقوق الإنسان سواء داخل أراضيه أو خارجها.

الدلائل والقرائن التي تؤكد زيف خطاب من يحملون على عاتقهم مهمة الدفاع عن حقوق الإنسان بالحق والباطل كثيرة ولا تغفلها عين الحقيقة حتى لو كابر أصحابها وتجبروا. فهناك انتقائية وازدواجية في المعايير تتم بشكل فج لا لشيء سوى لفرض مصالح هذا القطاع من السياسيين. لقد نشأ المفهوم بعد قيام الأمم المتحدة وتحديدا في 10 ديسمبر 1948 وتجسد فيما يعرف بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولا شك كان الهدف نبيلا حيث الاتفاق على حقوق عامة ومطلقة للإنسان لا تمييز فيها لأي سبب من الأسباب باعتبارها تنشأ من ولادة الإنسان نفسه. وقد كان جزءا من الجهد العالمي الهادف إلى عدم تكرار الأخطاء التي قادت العالم إلى حربين عالميتين مدمرتين. وكانت فرحة الشعوب الصغيرة والوليدة بعد الحرب أكبر من فرحة الكبار الذين صاغوا ووضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأنه كان بمثابة صك شرعي عالمي لتحرر هذه الشعوب من الاستعمار واستعادة كرامتها وقرارها المستقل في بناء مسيرتها نحو تعزيز الاستقلال الوطني وتوفير العيش الكريم لأبنائها.

ومرت عقود طويلة لم تتحقق فيها بنود الحقوق والحريات المختلفة بالقدر الدقيق المنصوص عليه في الإعلان، ومع ذلك لم يحتج أحد من المشتغلين بالقضية في العواصم الغربية، لأن المصالح كانت تمضي في اتجاه واحد هو لجهة الدول الغنية أو الاستعمارية القديمة. لا حديث وقتها عن القيم والمبادئ كما هو قائم في عصرنا هذا، وإنما الصمت والتغطية على التجاوزات، فلا بأس من وقوعها طالما نهر المصالح يصب في عالم الأغنياء.

وكان أشد دليل على المعايير المزدوجة الصمت المريب من جانب هؤلاء المتاجرين بورقة حقوق الإنسان، على الانتهاكات الصارخة التي تعرض لها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، و ما زالوا يتعرضون لها بوحشية من إسرائيل كدولة احتلال. والمأساة قائمة منذ 1948 وإلى الآن، وكلها ممارسات تتعارض تماما مع كل البنود الواردة في الإعلان العالمي. والمتاجرون بالقضية يشهدون ذلك صباح مساء ولا يحركون ساكنا، بل إنهم يتصدون سريعا لكل جهد يريد أن يدين إسرائيل. وبرغم كل هذه الشواهد لا يشعر هؤلاء بأدنى مشاعر الإنسانية التي يصرخون يوميا دفاعا عنها، ولكن عندما يتصل الأمر بإسرائيل التي صنعوها بأيديهم لا حديث عن حقوق الإنسان.

ليست إسرائيل وحدها التي لا يمسها لسان النقد، وإنما الدول الكبرى ذات الثقل العالمي مثل الصين وروسيا أو الدول التي لها يد طولى تستطيع أن ترد الصاع صاعين فتلجم أفواه الجالسين في الغرف المكيفة وتضعهم في حجم الأقزام دون أن تشعر بأدنى درجات القلق من أي رد معاكس مفترض. لقد فعلت الصين ما فعلت سواء مع المعارضة أو بعض الأقليات، وجاء رد الفعل واهنا لا يتعدى تسجيل الاعتراض اللفظي، لسبب بسيط جدا هو الخوف من القوة الاقتصادية الصينية التي هيمنت على مناحي الحياة في عواصم الغرب الكبرى. وعندما أرادت هونج كونج الاحتجاج لم يفعل لها تجار القضية شيئا وتكفلت بكين بوأد التحرك. هنا لا ينصب مرتزقة العمل بحقوق الإنسان المشانق كما يفعلون مع بعض شعوبنا وحكوماتنا ولا يملؤون الدنيا ضجيجا في محافل ومنظمات أقاموها لتكون ساحة للعدوان والتدخل الخارجي تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان. بل على العكس يتعاملون بطريقة لا أرى لا أسمع لا أتكلم. وفي حالة روسيا نلحظ نفس الموقف الخجول الذي يعكس الادعاء بالاهتمام دون القدرة على التغيير لأنه في هذه الحالة سيدفع هؤلاء ثمنا غاليا. لقد فعلت روسيا ما فعلت في مسألة القرم ولم تستطع أي عاصمة غربية التدخل أو الرد، فقط كانت البيانات الرنانة هي الجاهزة فقط، وعندما خرجت مظاهرات الاحتجاج ضد بوتين مناصرة لاعتقال زعيم المعارضة الروسي، لم يزد الموقف على إصدار بيانات الشجب والإدانة.

ومن مظاهر الانتقائية لغرض في نفس يعقوب أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتضمن مواد تتعلق بالحريات وأخرى تتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فالمواد 18- 21 تقر الحريات الدستورية والحريات الروحية والعامة والسياسية مثل حرية الفكر والرأي والدين والضمير والكلمة والتجمع السلمي للفرد. والمواد 22-27 تقر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفرد بما في ذلك الرعاية الصحية والسكن الملائم ورعاية الأمومة والطفولة. والملاحظ دائما أن دعاة حقوق الإنسان لا يرون من الإعلان العالمي إلا الجزء الخاص بالعمل السياسي، وبرغم أهمية ذلك على أساس أنه يوفر النظام السياسي الرشيد، إلا أن إهمال الجزء الثاني يكشف انتهازية أصحاب هذه الدعوة أو يؤكد أنهم يرمون من ورائها إلى تحصيل النفوذ السياسي ليس إلا فلا شك أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية هي العمود الفقري لإيجاد مجتمع يتمتع بالعيش الكريم وبإنسانيته على النحو الصحيح. وهل يعيش الناس بالتعبير عن الرأي أم بتوفير إمكانيات الحياة المعيشية الكريمة؟، بالطبع بهذا الطريق الثاني.

مؤشرات الممارسة تؤكد أن دعاة حقوق الإنسان يعلمون حقائق الأشياء على الأرض جيدا وأنهم يمارسون أسوأ مظاهر الانتقائية والكيل بمكيالين ولا يعيرون اهتماما لغضب ما هنا أو هناك تجاه الانحراف في مواقفهم. ومع ذلك ماضون في طريقهم ولن يحيدوا عنه، لماذا؟ لأن مصدر شرعيتهم في ساحاتهم السياسية الوطنية قائم على تبني هذه القضية لأسباب حزبية أو فكرية لا تهم كثيرا. وحيث الأمر كذلك فإنهم يمولون السياسيين المرشحين للمناصب العامة لإيجادهم في مراكز صنع واتخاذ القرار. وعندما ينجح هؤلاء يصبح من المتعين عليهم تنفيذ أجندة أصحاب هذه الدعوة وإلا فقدوا مواقعهم في الانتخابات القادمة. وتنفيذ الأجندة معناه تحقيق مصالح هؤلاء الناس أيا كان شكلها وأهميتها. وإذا كان ذلك مفهوما بالنسبة لما يريده هؤلاء على صعيدهم الوطني، فما الذي يدفعهم للتدخل في الشؤون الداخلية لغيرهم من الشعوب؟. الإجابة ببساطة تتعلق بوسائل إحداث التغيير حيث لم تعد الوسائل المعتادة المشروعة هي الحل بل افتعال الاحتجاجات وتحقيق التغيير من خارج المؤسسات.

هم في بلدانهم افتقدوا الثقة في المؤسسات كالبرلمان والأحزاب واتجهوا إلى بدائل تتمثل في الحركات الاجتماعية والجمعيات السياسية والمنتديات الفكرية وصولا إلى أجهزة الإعلام الحديثة سريعة التأثير والانتشار. فإذا كان حالهم في بلدانهم فالطبيعي أن يشجعوا أقرانهم في البلدان الأخرى على استخدام سلاح الاحتجاجات كتعبير عن ممارسة المعارضة، والطريق لذلك هو التركيز فقط على مهاجمة الحكم القائم من خلال حملات التعبير عن الرأي، وما أسهل ذلك في عصر السوشيال ميديا التي تجمع العاقل والجاهل معا في صف واحد، خصوصا وأن المعارضة في بلداننا لم تعد ذات مصداقية لهشاشتها وافتقادها للمشروع السياسي الوطني الذي يجمع الناس حولها. وهكذا تتلقف المعارضة ورقة حقوق الإنسان لتقتات عليها ليل نهار يساندها في ذلك ما تجده من دعم سياسي وإعلامي من الخارج وخاصة عندما يأتي هذا الدعم من حكومات بعينها.

عمليا ووفقا لتجارب التاريخ القريب والبعيد، لا تبدو الحملات الجديدة القديمة التي تتزامن دائما مع وصول إدارات حزبية ديمقراطية سواء في واشنطن أو من بعض حلفائها، مجدية لأصحابها أي لا تحقق أغراضها بالنسبة للمستهدفين منها. ولكنها تحقق أمرين محددين الأول الالتزام من جانب هذه الإدارات باستخدام ورقة حقوق الإنسان كواحدة من محددات بناء العلاقات السياسية الخارجية حتى لو لم تأتِ أكلها وهي هكذا بالفعل لأن هناك «لوبيا» يطالب بها. والثاني هو إنعاش قوى المعارضة الداخلية عند الغير حتى لو لم يتحسن موقفها وهو هكذا دائما. ما يتعين إدراكه هو أن وضعا كهذا يحدث قلقا عند الرأي العام ولكن لا يحدث تغييرا لأن دعاة الضغط بورقة حقوق الإنسان لم تعد لهم مصداقية، ولأن المصالح لا تقف عند ما يخص اللوبي الذي يقف خلفها، وإنما تعلق بالدول ككل الأمر الذي هو أكبر بكثير من مجرد إرضاء هذا الفريق أو ذاك. القلق في هذه القضية له سقف محدد لا يتجاوزه.

** ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة