أفكار وآراء

تحولات الأنظمة.. أخلاقيا

28 فبراير 2021
28 فبراير 2021

خميس بن راشد العدوي -

الحياة.. مجبولة على الأنظمة، فلا تمشي بدونها. والأنظمة رتيبة في تطورها؛ لا يكاد الإنسان يبصرها، وكان يقف على أنظمة الحيوانات والنباتات ولا يشاهد تطورها، وقد قطع شوطاً طويلاً حتى أدرك أنها متحركة. وقد استطاع أن يهتك حجاب هذا الجمود عندما أخذ في التحول من طور إلى طور في الأنظمة التي تدير حياته؛ سواءً أكانت معرفية أم عملية، دينية أم اجتماعية، سياسية أم اقتصادية، ورغم أنه انسلخ دهر طويل من عمر الجنس البشري حتى أدرك هذه التحولات؛ إلا أن ذلك حصل منذ آلاف السنين.

المقال.. يطرح لحظة التحول في الأنظمة البشرية، وما يصحبها من الحاجة إلى إنتاج منظومات قيم أخلاقية، لتحفظ توازن الاجتماع البشري في كافة مستوياته؛ المستوى النفسي للفرد، والمستوى التفاعلي للجماعة، بدايةً.. من العلاقات الثنائية بين شخصين، حتى نظام الدولة، مروراً.. بالأنظمة الاجتماعية المختلفة.

نلحظ الحاجة إلى تجديد منظومة القيم الأخلاقية عند كل جيل تقريباً؛ وذلك.. عندما نرى كبار السن يشتكون من سلوك الجيل الفتي، وهذه ظاهرة ليست طارئة، وإنما هي معهودة، دوّن سجل الحضارات بعض نصوص هذا التذمر، وفي العهد الإغريقي اتُهم أبو الفلسفة سقراط بإفساد عقول الشباب، ودعوتهم للتمرد على القيم الاجتماعية والدينية، وهو ما واجهه الأنبياء والمصلحون، (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)، وهكذا يتكرر المشهد حتى يومنا.

وعندما ننظر إلى هذه الظاهرة.. سنجد جيلاً استقر على منظومة قيمية اعتاد عليها، وجيلاً يتطلع إلى منظومة أخرى تتواكب مع آماله، في لحظة التحول هذه يكثر الجدل حول السلوك المستحدث في المجتمع، فيأتي التربويون والمفكرون ليكشفوا عن معالم المنظومة القيمية للجيل القادم حول مدى صلاحية السابق ومشروعية اللاحق منها، ولذلك.. جاءت مقولة: (لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم).

الحياة البشرية.. لا ترضخ للاستقرار، فهي في تطور مستمر، مما يستلزم تبدل في الأنظمة، فهي عند كل مرحلة انتقالية تتفكك لتفسح المجال لحياة قادمة بأنظمتها المناسبة لها، هذا التحول -غالباً- لا يحصل بهدوء، وإنما يكون منفعلاً، وقد يشوبه التوتر، فالأنظمة الهرمة لا تستسلم لموتها بسهولة، وإنما تكافح بشدة لأجل بقائها، فينتج عن ذلك تشظٍ في الحياة الاجتماعية، يستتبعه انتهاك لمنظومة القيم السائدة، مما يجعل الحاجة ماسة إلى قيم جديدة، وهذا ما يوفره الدين والفلسفة، فالدين.. يعيد بناء الحياة وفق منظومة قيمه الأخلاقية، وهذا ما يفرق بين النبي والفيلسوف، فالنبي.. لا يكتفي بطرح منظومته وإنما يعمل على بناء اجتماع يتمثل القيم التي يبشر بها، بينما الفيلسوف.. يخلق وعيا بانتهاء المنظومة القديمة، ويعمل على التنظير لعملية التحول، وهو -غالبا- منعزل في مكتبته أو حديقته، أو بين طلابه.

أركّز هنا على ثلاثة مصطلحات: المنظومة.. بناء اجتماعي بطبيعته التغيّر من مرحلة إلى أخرى، والقيم.. تحدد موقع الأخلاق في هذه المنظومة، والأخلاق.. عامل ثابت في ذاتها، لكن تتغير قيمتها داخل المنظومة التي تعمل في الاجتماع، فالعدل.. ثابت بذاته منذ الأزل حتى الأبد، إلا أنه عندما يعمل بكونه قيمة في منظومة؛ ستزاحمه أخلاق أخرى كالرحمة والمساواة، حينها سيأخذ العدل نصيبه من التحقق في ظل المنظومة التي تعمل داخل الاجتماع البشري.

ولأقرّب الصورة.. علينا -مثلا- أن نتصور مجتمعاً معدما، لا يكاد يجد ما يسد رمقه، تفشت فيه بسبب ذلك السرقة، فلإخراجه من عوزه؛ ينبغي أن تترتب منظومته القيمية بما تناسبه، فتأتي الرحمة في أول السلّم، ثم العمل ثم التعاون ثم العدل، ولا يمكن أن نقلب السلّم، فأي عدل يمكن أن نقتصّ به من سارق تكاد أن تودي به مسغبته؟ وعن أي تعاون نتكلم في مجتمع لا يستطيع أن يعمل ومخالب الجوع تنهشه؟ أما إذا أخذنا مجتمعاً زراعياً منتجاً لغذائه، فيمكن أن تترتب منظومته مبتدئة بالعدل ثم التعاون ثم الرحمة ثم العمل. وهكذا تعمل منظومات القيم، فهي تشتمل على الأخلاق التي لا غنى للمجتمع عنها، بحيث تترتب وفق الحالة التي يعيشها.

والمجتمع.. متحرك، مما يجعله دائماً بحاجة أن يعيد ترتيب منظومته؛ من واقع القيم التي يحتاج إليها. وهذه قاعدة مطردة في المجتمعات، تبدأ.. من الحي السكني ومؤسسة العمل، وتنتهي.. بالدولة والأحلاف الدولية الكبرى، بما في ذلك منظمة الأمم المتحدة.

والدولة.. أعقد كيان اجتماعي وأخطره في حياة البشر، وتحتوي على أنظمة اجتماعية كثيرة ومتنوعة، تبدأ.. من أبسطها كالبقالة على قارعة الطريق، مروراً.. بالمؤسسات الصحية والتعليمية والبيئية، صعوداً.. نحو الهيئات والوزارات والمشاريع الكبرى، حتى تنتهي بالحاكم وآلية إدارته للدولة، كل هذه الأنظمة.. لابد أن تحكمها منظومات قيمية؛ وهي تتفاوت فيما بينها في ترتب الأخلاق في سلّمها.

الدولة.. لا يلحقها التغيّر للأسباب الداخلية فقط، بحيث يمكن رصد خط تطورها، وبالتالي.. عندما نفهم هذا التطور نضع لها -آلياً- منظومة القيم المسيّرة لها، وحتى التغيرات الداخلية هي معقدة؛ لأنها تنبني على رصد حركة الإنسان، والإنسان بطبيعته هو كل يوم في شأن، يتغيّر مزاجه النفسي بصورة ليس من السهولة التنبؤ بها، بل تغيرات الدولة أعقد من ذلك، فالدولة.. في استوائها ليست هي في نشأتها، وحال ضعفها ليس كحال قوتها، وفي حربها ليست كسلمها. والدولة.. تعيش في عالم متغيّر ومتنافس ومتصارع، مما تنعكس عليها أوضاع العالم، وهي كذلك تدخل في تحالفات ومواثيق دولية، يجعلها دائماً في حالة من الاستنفار في أنظمتها.

لأجل ذلك كله.. اعتادت الدول أن تدير مكوناتها وفق استراتيجيات بعيدة، وخطط متوسطة، وبرامج قصيرة، ماذا يعني هذا؟ يعني.. أن هناك تفاعلاً مستمراً بين هذه المكونات والعلاقات التي تربط بينها، حتى تتمكن من أداء عملها، لخدمة الإنسان على أفضل وجه. لا يقتصر الأمر على هذه البديهة الإدارية، فهناك عمق يجب ملاحظته، وهو أنه عند كل استراتيجية -وربما عند كل خطة- تتفكك أنظمة قديمة، وينحل كثير من عناصرها؛ لتحل محلها عناصر جديدة، بما في ذلك البشر الذين تقوم عليهم الاستراتيجيات؛ في إنشائها وإدارتها وتقييمها، هذه العملية تستوجب أخلاقاً قادرة على حفظ الأنظمة المستجدة للدولة، وإذا لم يصحبها بناء قيمي ملائم فسوف تتفسخ بمرور الزمن، مما قد يؤدي إلى انهيار الدولة ذاتها.

ومن هنا.. لابد أن يوجد في الدولة «جهاز أخلاقي»، ولا أقصد به أن توجد «مؤسسة أخلاقية» تفرض وصاياها على باقي المؤسسات، فالأخلاق.. لا تُفرَض بهذه الطريقة، فكل مؤسسة معنية بأن تبني نفسها قيميا كالإنسان تماما، وإنما أقصد بأن على الدولة أن يوجد لديها فلاسفة أخلاقيون، قادرون على تحليل بنيتها وحركة مساراتها نحو المستقبل، وما قد يصيب أجهزتها من عطب أخلاقي، ليقدموا رؤيتهم الأخلاقية بما يتناسب مع وضع الدولة، فهناك ترتيب لسلّم القيم كما ذكرت، وهنا ما ينبغي رفضه أخلاقياً من مستجدات الحياة، وآخر يستوجب تبنيه بضوابط أخلاقية، وهذه الرؤى الموضوعية.. هي ما ينبغي أن تعتمد عليه أنظمة الدولة كلها. ولذلك.. فوجود علماء أخلاق متخصصين في فهم الدولة وتحولاتها أمر ضروري لبقائها وتقدمها، ولتجاوز التناقضات التي تصيبها، أو تخفيفها على الأقل.

بل على الدولة ألا تكتفي من المنظومة القيمية بما يحفظ لها وجودها، وإنما عليها أن ترتقي بها في الأخلاق بما يعزز لديها دائماً المفاهيم الإنسانية كالكرامة والعدالة، والحرية والمسؤولية، والأمن والسلام، والرخاء والازدهار، فالدولة.. ذات سنن اجتماعية يلزمها لأجل الإنسان أن تحقق «وحدة الأخلاق الإلهية»، وقد تكلمت عن هذه الوحدة في مقال سابق.