888998
888998
الثقافة

مقبرة أمير الجيوش في دبا.. موقع يحكي تفاصيل مثيرة في التاريخ العماني

24 فبراير 2021
24 فبراير 2021

أهل دبا لم يرتدوا عن الإسلام.. والمؤرخون العمانيون يكشفون التفاصيل - 

كتب: أحمد خليفة الشحي -

عندما تسمع باسم مقبرة «أمير الجيوش» تقف للحظات تراجع نفسك، أين سمعت بهذا الاسم من قبل، في أي كتاب من كتب التاريخ مرّ عليك هذا الاسم، ولأي حقبة تاريخية يعود.

الاسم له صداه الكبير الذي لا يأتي صدفة ساقها الزمن، وإنما خلفه تاريخ كبير ومساحة أكبر من التفاصيل المهمة.

استوقفنا الاسم كثيرا، فكان لا بد من البحث، ولا بد من السؤال لمعرفة تاريخ هذه المقبرة ومَن هذا أمير الجيوش الذي حملت المقبرة اسمه؟

تقع المقبرة في ولاية دبا، الولاية العريقة بين الولايات العمانية والتي يعود تاريخها إلى مرحلة ما قبل الإسلام، يوم كانت وجهة من وجهات العرب الثقافية والاقتصادية. ويوم كانت محطة من محطات التاريخ العماني والإسلامي.

وحتى نعرف الكثير عن هذه المقبرة التقينا بالدكتور راشد بن محمد حروب الشحي المهتم بالجوانب التاريخية وخاصة المتعلقة بمحافظة مسندم ليحدثنا عن تفاصيل وتاريخ هذه المقبرة وحول اسمها اللافت للنظر.

إطلالة تاريخية

يقول الدكتور راشد الشحي: إن ولاية دبا بلغت مبلغا كبيرا من الشهرة، وذاع صيتها في الآفاق والبلدان على مر العصور والأزمان منذ عصر ما قبل الإسلام فتذكر كتب التاريخ في بطونها ومتونها وصفحاتها عن هذه الولاية الشيء الكثير وعن سوقها الشهيرة في العصر الجاهلي وصدر الإسلام وإلى عهد ليس ببعيد فقد نالت دبا اهتماما كبيرا وجارت صحار ذكرا بل إنهما شقيقتان في المكانة التاريخية، وذكرها الكثير من المؤرخين منهم أبو حيان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة والأزكوي في كتابه كشف الغمة والإمام نور الدين السالمي في تحفة الأعيان وجاء ذكرها في كتاب مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع وكتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم وتحدث عنها الجغرافي الكبير ياقوت الحموي في معجم البلدان بقوله: «مدينة قديمة مشهورة لها ذكر في أيام العرب وأخبارها وأشعارها وكانت قديما قصبة عمان». والناظر إلى دبا اليوم يكاد لا يصدق ما يذكره التاريخ والمؤرخون عنها وعن أسواقها الكبيرة ودورها الفارعة وأسوارها العظيمة وقلاعها وحصونها المنيعة ومكانتها التجارية والاقتصادية التي كانت إحدى سماتها الحضارية آنذاك إلا أن الأيام دول كما هو معروف، وصدق الله العظيم حيث قال: «وتلك الأيام نداولها بين الناس».

تاريخ المقبرة

وحول الحقبة الزمنية التي تعود إليها مقبرة أمير الجيوش يقول الدكتور الشحي: إن الحديث في هذا الجانب كثير ومتشعب فالمقبرة تعد من وجهة نظري من القضايا والأماكن التاريخية التي تحتاج إلى دراسة مستفيضة وتمحيص دقيق من قبل جهات الاختصاص في السلطنة ولكن يمكن القول بحسب اطلاعي: إن هذه المقبرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتاريخ إسلام أهل عمان عموماً ودبا خصوصاً ومما لا شك فيه أن إسلام أهل دبا مرتبط بإسلام ملوكهم، وحينها كان جيفر وعبد ابنا الجلندى بن المستكبر الأزدي ملكين على عُمان ومن المعلوم أنه عندما قدم عمرو بن العاص، رضي الله عنه، حاملاً لهما كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدعوهما بدعاية الإسلام ما كان من «جيفر وعبد» إلا أن أسلما وأسلم أهل عمان معهما طوعاً دون أن يطأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أرضهم بخف ولا حافر، ويقول الواقدي: وقدم وفد الأزد من دبا مقرين بالإسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث عليهم مصدقا منهم أي عاملاً يجبي الزكاة وكتب لهم فرائض صدقات أموالهم تؤخذ من أغنياهم وترد على فقرائهم ففعل ذلك عامل الصدقات ورد ما زاد من مال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون في بيت مال المسلمين إذا لم يجد لها مصرفا واستمر الحال حتى انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وما أعقب ذلك من حروب الردة.

حروب الردة

وعلى هذا فإن تاريخ المقبرة يعود إلى حروب الردة التي حدثت في عهد الخليفة الأول أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، حيث لم تكن دبا في معزل عن هذه الفتنة التي عمت شبه جزيرة العرب وفي هذا الصدد أشير إلى بعض ما ذكره المؤرخون والكتاب ومنهم ابن سعد والعوتبي والبحراني والشيخ العلامة نور الدين السالمي والفقيه الشيخ سالم بن حمود بن شامس السيابي في كتابه «عمان عبر التاريخ» أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وجه إلى عمان أميرا أي على الصدقة حذيفة بن محصن الغلفاني يأخذ صدقات أموالهم فأعطوه جميعا الصدقات حتى وصل إلى آل الحارث بن مالك بن فهم، وهم المعروفون في أهل عمان بالشحوح، أكبر رهط في دبا الذين يعود نسبهم إلى «ذي التاج» لقيط بن الحارث بن فهم بن مالك بن فهم الأزدي ولما صار المصدق عليهم تناول بعض أصحابه امرأة من القوم وكان عليها شاة مسنة فأعطتهم عقوداً أو عناقا مكان الشاة المسنة فأبوا أن يقبلوها وأخذوا ما أرادوا أي مما وجب لهم، فلما رأت المرأة ما فعل الجباة صاحت على قومها «يا آل مالك»، فلما سمع حذيفة الغلفاني الدعوة قال: «دعوة جاهلية» وأن القوم مرتدون فغار عليهم وأسر الرجال وسار بهم إلى المدينة المنورة، فسوء الفهم بين جباة الزكاة وأهل دبا من شمال عمان وسوء التفاهم بينهم مهّد لظن ذلك ارتدادا عن دين الإسلام فحدثت تلك الواقعة بدبا لذلك عندما وصل وفد أهل دبا إلى المدينة المنورة وبينوا ما وقع بهم من أمر وحل بهم من قتل وسبي وأنهم ثابتون على إسلامهم فما كان من عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلا أن أكرم أهل دبا وجبر خواطرهم ورد عليهم سبيهم وأموالهم وزودهم من بيت مال المسلمين ما يهّون عليهم مصيبتهم وهو ما أوردته الكتب العمانية كون أهل عمان أعرف بحالهم من غيرهم.

سوء فهم

ومهما حدثت من حرب ضروس وكثرة أعداد القتلى والأسرى و شدة وطول الحصار إلا أنه يمكن القول إن ردة أهل دبا زعم لا أصل له وأن حقيقة حرب دبا إبّان الردة سببها سوء فهم وتفاهم بين الأهالي وجباة الصدقات فكيف لقوم أسلموا طوعاً وأذعنوا للحق راغبين رغم بعد ديارهم أن يرتدوا عنه؟ وأين هم من مديح الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقوله:«يا معشر أهل عمان إنكم أسلمتم طوعاً لم يطأ رسول الله ساحتكم بخف ولا حافر» ثم حكى ما سره عن حالهم بقوله: «ثم بعث إليكم عمرو بن العاص بلا جيش ولا سلاح فأجبتموه إذ دعاكم على بعد داركم وكثرة عددكم وأطعتموه إذ أمركم، فأي فضل أبر من فضلكم وأي فعل أشرف من فعلكم كفاكم قول رسول الله صلى الله عليه و سلم شرفاً إلى يوم المعاد».

سبب التسمية

وسميت مقبرة «أمير الجيوش» بهذا الاسم نسبة لملك دبا في ذلك الوقت وهو لقيط بن مالك الأزدي الذي لقب بذي التاجين «تاج دبا وتاج صحار» والمقبرة تاريخها يرجع لحقبة لقيط بن مالك الأزدي عندما احتشدت له جيوش حذيفة بن محصن وجيش بنو ناجية وجيش بني عبد قيس عندما سمعوا أن لقيط وأهالي دبا ارتدوا عن دفع الزكاة فقام لقيط بن مالك الأزدي بحشد جيش يضم كافة القبائل التي تواليه. وفق ما ورد في مخطوط زياد بن خلف البحراني وفي كتاب الفتوح لابن خياط.

موقع مقبرة أمير الجيوش

وحول موقع المقبرة يقول الدكتور راشد الشحي: تقع المقبرة في منطقة الغرابية بولاية دبا بمحافظة مسندم وهي مقبرة ذات مساحة كبيرة تصل إلى آلاف الأمتار من الأرض وتعد إحدى المواقع الأثرية المسجلة من قبل وزارة التراث والسياحة بالسلطنة والمحمية بموجب قانون حماية التراث القومي الصادر بالمرسوم السلطاني رقم«6 /80»، وهي على مقربة من موقع سيح الدير الأثري الذي تم اكتشافه في سبتمبر 2012م في مقر نادي دبا الرياضي الثقافي.

وفي صدد الحديث عن حرب الردة يذكر ابن جرير الطبري أن عدد القتلى في المعركة التي دارت رحاها في دبا إبان الردة بلغ عشرة آلاف قتيل وأن من قتل خارج المعركة قد يزيد عن هذا العدد والمتأمل لمساحة المقبرة وعدد القبور الظاهر منها للعيان يوحي بمدى الكثافة السكانية بدبا حينها وما تتمتع به من أسوار عالية وحصون منيعة وبسالة المقاتلين وشدة وطيس القتال وكذلك أن الحرب لم تقتصر على أهل دبا وحدهم فحسب بل شاركهم فيها بني جلدتهم من البطون والعشائر المنتسبة إلى مالك بن فهم من بني معولة من أزد عمان.

حماية التراث الإنساني

وفي ختام حديثه أكد الدكتور راشد بن محمد حروب الشحي على أن الحفاظ على الموروث التاريخي والإنساني بشقيه المادي وغير المادي هي مسؤولية تقع على عاتق الجميع أفراداً ومؤسسات وأن مناشدتي للمختصين والمسؤولين وصناع القرار في الحكومة ضرورة توجيه مزيد من الدراسات والأبحاث حول التفاصيل الدقيقة لهذه المقبرة كونها موقعا له مكانته التاريخية «عمانيا وعربيا وإسلاميا»، بل وغيرها الكثير من المواقع والمآثر التاريخية في ولاية دبا والسلطنة عموماً مع العمل على المزيد من التشجيع والدعم لجهود الباحثين والمهتمين في هذا المجال لأن أي مورث سواءً كان مادياً أو غير مادي هو موروث غني ينبئ عن تاريخ عريق للأرض وأهلها ودليل يبرهن على عراقة الشعب ورسوخ جذوره في أرض ووطنه لذا فإن الحفاظ عليه وصونه بات أمراً ضرورياً نظراً لما يتعرض له التراث الإنساني في الوقت الراهن من تدهور وخطر محدق في ظل العولمة الحديثة المهددة بطمس هوية وخصوصية المجتمعات وأن ارتباط الإنسان الأول بتاريخه وتراثه وحبه له أدى إلى الديمومة والاستمرارية باعتباره من مكونات الهوية الإنسانية والحضارية للأمم والشعوب وأن المتتبع للتاريخ يدرك أن حاضر اليوم ما هو إلا امتداد واضح لتاريخ الأمس.