5585
5585
الثقافة

« أنساغ » .. يوميَّات: محو أثر

23 فبراير 2021
23 فبراير 2021

عبدالله حبيب

(يأتي نشر مختارات من اليوميَّات في هذه الحلقة من «أنساغ»، وكذلك في حلقات أخرى لاحقة، تواصلاً مع كتابيَّ «ليلميَّات» الصادر عن دار الجديد، بيروت، 1994، في طبعة أولى، وعن دار الانتشار العربي، بيروت، 2015، في طبعة ثانية، و«تشظيَّات أشكال ومضامين: عنوان مبدئيٌّ في أحسن الأحوال وأسوئها» الصادر عن دار الانتشار العربي، 2009، وكذلك استئنافًا لسلسلة اليوميَّات التي نشرت حلقات منها في ملحق «شرفات» الثقافي إبان صدوره عن هذه الصحيفة).

الجمعة، 22 ديسمبر 1989، سان دييغو، كاليفورنيا: أن تُعاقَب لأنك قررت أن تجلس إلى كتاب تاركوفسكي «النحت في الزمن: تأملات في السينما»، انتقاما وشماتة بكل شيء، وذلك في المكتبة العامة الواقعة على College Ave.، هاربا من كل شيء، وكل أحد، بأن تخرج بعد بضع ساعات من القراءة لتجد مخالفة مُروريَّة موضوعة تحت الماسحة على الزجاج الأمامي لسيارتك فهذا أمر لا يدعو لغير الاعتقاد بأنه غير مسموح لك أن تقرأ. وإن شئت أن تكون عنيدا وتفعل فإن عليك دفع سبعة عشر دولارا أمريكيّا تافها غرامة لصالح خزينة الامبراطوريَّة الجديدة.

في الحقيقة، سيارتي كانت موقوفة في مكان سليم حسب القوانين المرعيَّة والتعليمات الشرعيَّة في المذاهب والديانات السماويَّة والأرضيَّة، وإشارة منع الوقوف كانت تعني منطقة أخرى من الرصيف، وليس البقعة الضئيلة التي كانت سيارتي متوقفة عليها. لكن هل لتحامل السُّلطة إلا أن يكون فظَّا، وفجّا، وعاريا، ومتغطرسا، وليس من صفاته تجشم عناء الاستئذان؟. وحين تتعلق الأشياء بك فإن الأمر لا يحتاج إلى قِناع. تتيح «الديموقراطيَّة الأمريكيَّة» لي أن أعترض على المخالفة، ولكن ذلك يتطلب الذهاب إلى المحكمة، وانتظار القرار، وكأنه لديَّ الوقت الكافي لحكِّ رأسي أصلا.

لا بد من التنكيل لمجرد أني أريد أن أقرأ كتابا أو أشاهد فيلما. لا تزال مرارة فقدان محفظتك في «متحف لاهويا للفن المعاصر» طازجة: أكثر من مائتي دولار نقدا، وجميع بطاقاتي: كيف أستطيع أن أثبت هويتي بُعيد ما حدث؟. كيف أستطيع القول إنني إنسان بسيط لا يريد إلحاق الضرر بأي أحد وذلك لأني من مجز الصغرى، وأنا من أصدقاء تَعُّوب الكَحَّالي، ولا أتمنى للعالم سوى الخير والعافية؟. الانتقام، هناك، أمام المتحف أو فيه، لا يقلُّ في مراتب الأذى؛ إذ في ظروف بدايات قطع البعثة الدراسية في تحاملٍ غِلِّيٍّ جديد من سلطات الابتعاث في مسقط، والظرفين النفسي والمالي العسيرين، حين رأيت أن أضرب بكل شيء عرض الحائط وطوله، وأشاهد فيلما، كان لا بد من تلك الضريبة الباهظة. تُكلِّفُ مشاهدة فيلم في «متحف لاهويا للفَنِّ المعاصر» الشخص «الطبيعي» خمسة دولارات غبيَّة فقط، أما أنت فعشرات من أضعاف ذلك.

واليوم، على الرغم من أوجاعك البدنيَّة، وأحزانك، وترقبك غير المتفائل لقرار المرضى والحقودين في مسقط في مسألة إعادة البعثة الدراسيَّة (أحار حقَّا في كيفيَّة تمكُّن الفاضل [...] من التَّنفس بينما غائط العالم يترنح في رأسه)؛ فحين أردت أن أمارس إنسانيتي ببعض القراءة، شاءت، محكمة المدينة أن تقاضيني بغرامة مقدارها سبعة عشر دولارًا أنت بأمس الحاجة لما تيسر من الهمبورغر، والسجائر، والأفلام.

في السينما، الليلة، في كِنْزِغْتُن، لم تكن مَشاهد «قطار الغموض» قد بدأت بعد، حين طفقت المؤخرات الغبيَّة في الضحك. يا إلهي، لماذا يضحك أولئك الرعاع، والسائبة، والدهماء الذين من غير سبيل؟. هل لأن جم جارمُش كوميديٌّ بالضرورة؟. لكننا لم نبدأ في مشاهدة الفيلم بعدُ كي نعرف ما يُضمر لنا من أقدار ومصائر!. أيُّ فراغ في تلك الأرواح الرَّثة؟.

وفي أية حال فإن جارمُش أصبح يتضرع أولئك المشاهدين الحمقى أكثر مما ينبغي في هذا الفيلم. إنه يريد أن يُضحكهم هكذا كيفما اتفق. ليته كان يريد أن يضحك عليهم أو لهم. لم أعد أحب أفلام جارمُش، ويبدو أنني بالغت في تأويل ثيماته العبثيَّة في أفلامه السابقة. أعتقد أن جارمُش سيكون مخرجًا سينمائيًّا تافهًا آخر في القائمة الأمريكيَّة الطويلة.

تحتاج أمريكا إلى مُخرِج سينمائي حزين.

السبت، 23 ديسمبر 1989، سان دييغو، كاليفورنيا: الرجل ذو الوجه البليد الذي جسده ينتمي لحلبات المصارعة الأمريكية الذي جلس خلف الطاولة مادَّا رجليه تحتها إلى المقعد المقابل يقلِّب بلا اهتمام صفحات كتاب مصوَّر، وينظر إليك بتفحص بين الفينة والأخرى. وحين يصطدم به بصرك يكون كمن انكشف أمره، فيخفض بصره ويعود إلى تقليب الكتاب بلامبالاة كمن يقول: حسن جدا، إني لا أقرأ كما ترى!.

قبل وقت قصير من الذهاب إلى المكتبة العامة حادثني ماريو في الهاتف، وأعرب عن إفلاس السياسة الأمريكية بغزو بنما. جرجرني في الحديث إلى قراءاتي الأخيرة بما فيها كتاب غورباتشوف. بدورك لم تجد غضاضة في التعبير عن وجهة نظرك بانكشاف القناع الأمريكي، بتمزقه غير الجديد وغير الأخير. ربما لذلك ظهر ذلك الرجل ذو الجسد المصارع في المكتبة العامة.

في حوالي الرابعة صباحًا حين كنت واقفا في غرفة المجلس ببيت الأسرة في مجز الصغرى لم أنتبه إلى الأب وهو يزحف بمحاذاة الجدار من الخارج (كيف لك أن تنتبه إلى ذلك)؟، ويقف خلف النافذة الخشبيَّة ذات القضبان الحديديَّة الصدئة المقابلة للبحر، ويُخرج من جيب دشداشته مسدسا أسود، ويمد يده بين القضبان، وحين اصطك جسدي بالجدار في مكابرة الرعب دار بينكما حديث قصير غاضب لم تعد تتذكره. ضغط الأب على الزناد وانطلقت الرصاصة إلى الجزء الأيسر من صدري. تحسست الدم اللزج الساخن بأصابع يدي اليمنى للتأكد من أن الأمر ليس كابوسا، وحين وثقت إلى أنه ليس كذلك صرخت: قتلتَني!.

ذهبت إلى الحمَّام وكان الجزء الأيسر من صدري يؤلمني، وحين عدت إلى السرير كنت أدرك مسبقا أن النوم لن يعود. لا ينبغي أن يعود في أية حال.

الأحد، 24 ديسمبر 1989، سان دييغو، كاليفورنيا:

(1)

الكتابة هي الكائن الوحيد الذي يستعصي على الاغتصاب، فلا تحاول.

(2)

خوفي وحذري الشديدان حين أقود السيارة في هذه الأيام ليس مصدره كثرة وجود السيارات في الشوارع، بل كثرة وجود الآخرين فيها.

(3)

سَنَايْ.

سَنَايْ هي خلاصة نساء الشرق قاطبة في الشهقات المكبوتة، في الكهرباء الخجول، في حياء الاندلاق، في اللُّعاب يتضوَّعُ على العُنق ويُرَضُّب المخدة، في العَرق الغزير يُمسِّد الظَّهر، في جدران الغرفة وهي تعود إلى الغابة، في الدفع بالكفَّين خَفَرَا كي لا يؤذي الصَّدرُ الصَّدرَ، في ارتعاشة الورك الصَّقيل وهو يحنو على الكتف، في الزعم أن كل ذلك لم يحدث، في التوكيد على الهروب من كل التقاويم والأعمار.

سَنَايْ هي أروع امرأة في كل هذا العالم.

سَنَايْ.

(4)

المنفى ليس وطنًا. إنه وطنٌ آخر.

(5)

«أنا رجل مريض. أنا رجل حقود. أنا رجلٌّ مُنفِّر. أحسَبُ أن كبدي مريضة» (دوستويفسكي، «ملاحظات من تحت الأرض» التي لا أستغرب أبدا أن تكون من الأعمال الأثيرة لدى علامات كبيرة مثل نيتشه، وكافكا، وكامو).

(6)

أعتقد أن كافكا لم يكن مُحقَّا (لم يكن صادقا، بالأحرى) حين طلب من ماكس برود أن يحرق مخطوطاته بعد موته. آرثر رامبو كان صادقًا مع نفسه ومع الآخرين أكثر حين طبع نسخًا قليلةً من قصائده ووزعها على السكارى. في الجانب الموضوعي كان كافكا يدرك بالتأكيد أن برود لن ينصاع لرغبته التي كان عليه أن ينفِّذها بنفسه لو كان جادًّا حقًّا في الأمر. كم كان كافكا مُرائيًا، ومنافقا، ومُتظاهرًا كبيرًا، و«كَلَكْتْشي»، و«عيَّارا» من الطراز الرفيع، ودجَّالا خبيثا، وقد يكون أفضل من مارس موهبة العلاقات العامة – بعد وفاته -- بنجاح باهر في كل تاريخ الأدب. ومع ذلك فإن كافكا هو أحد أكثر الكُتَّاب قربا إلى روحي: أعتقد دوما إنني غريغوري سامسا، وأعتقد أن الأب، والأم، والأشقاء، والشقيقات، يزمعون قتلي من جديد. لم يكفِهم موت واحد، ولن يقتنعوا بحياةٍ أخرى.

(7)

إشكالية العلاقة بالآخرين لا تتخذ بعدا تجريديّا، أي أن المعنى الفلسفي ليس كل شيء؛ إذ إن ثمة بُعْدا ماديّا تماما في تلك الاستحالة. إنني أتضرر بالضرورة من أي احتكاك بالآخر منذ سني الصبا: كلامي يَضَرُّني، وابتسامتي تضرني، وضحكتي تضرني، سهادي يضرني، والنهار يضرني، وصمتي يضرني، ومحاولتي التهرب من الإجابة عن الأسئلة تضرني، وتلميحي يضرني، والشمس تضرني، والنجوم تضرني، وإسهابي يضرني، ووجومي يضرني، وأسناني تضرني، وعظامي تضرني، وافتعالاتي تضرني، وتظاهري بالبلادة يضرني، والهواء يضرني، و«البرنوص» يضرني، و«الحجرة الشَّماليَّة» تضرني، و«الحجرة الداخليَّة» تضرني، و«الحجرة الصغيرة» تضرني، واستطرادي يضرني، وتظاهري بحسن الأدب والسلوك في «الرمسات» العائلية يضرني، و«السَّابات» يضرني، والمطبخ يضرني، ومحاولاتي العاثرة في الدفاع عن النفس تضرني، والشياه تضرني، والخرفان تضرني، والتيوس تضرني، والقطط تضرني، والكلاب تضرني، والأبقار تضرني، والحمير تضرني إذ «لو الحمار بيتعلَّم إنته بتتعلَّم» ضمن «هدايا» أخرى في يوم العيد، وقعودي يضرني، ومشيتي تضرني. كل شيء ضدك (بمن في ذلك أنت، ويا لبؤس كلماتك، أنت يا من تبحث عن آخر الحروف).

(8)

دلفوا إلى الصالة يضحكون، وأنت متكوِّم عابس في غور مقعد الاسترخاء ذي الذراعين إذ تركت باب الشقة مفتوحًا توقعا لقدومهم. انطلقت الفيزياء واضطرب الجسد. الفرنسيَّة المؤمْرَكَة، قالت لك إن مشكلتها أنها تسكر بسرعة حتى في إثر نصف كأس من النبيذ الأحمر الخفيف. أردتَ أن أسخر وأعبِّر عن اشمئزازي منها ومن بلاهة تعقيباتها فقلتُ: تسكرين بسرعة ربما لأنك سعيدة جدا!. كوَّرت قبضتيها، ورفعت ذراعيها في الهواء بصورةٍ انتصاريَّةٍ كمصارع طوَّح بخصمه إلى الجحيم، وزعقت مبتهجة: أوه، حقا؟!. أشعر أنني أفضل الآن بكثير!. لقد أسعدتَ يومي!.

إنني أبحث عن الإنسان، ولا جدوى في ذلك.

(9)

على العلاقة بالأب (والأم أيضا) أن تتحول إلى عاطفة بديلة، عنيدة، وعاتية، وغير قابلة للمساومة، والحلول الوسط.