أفكار وآراء

امتلاك التقانة بالتطوير لا بالشراء

22 فبراير 2021
22 فبراير 2021

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي -

تعرف الموسوعة البريطانية التقانة أو التكنولوجيا technology بأنها تطبيق المعرفة العلمية لتحقيق أهداف عملية لخدمة الإنسان أو لتغيير وتطويع بيئة الإنسان. وفي الجانب اللغوي من التعريف اعتمد مجمع اللغة العربية بدمشق، وكذلك الجامعة العربية وآخرون، كلمة «تقانة» ككلمة مرادفة لكلمة تكنولوجيا الشائعة الاستخدام، وهي كلمة يونانية الأصل مكونة من شقين، techno وتعني حِرفة أو مهارة أو فن، وlogy وتعني علم أو دراسة.

كانت التقانة تتطور عبر العصور مع تطور حاجات الإنسان، فقد قيل «الحاجة أم الاختراع»، إلا أن التقدم العلمي المتسارع المصحوب بحب الإنسان للمال، خاصة في العقود الأخيرة من هذا العصر، جعل الاختراع يسبق حاجة الإنسان، فكثيرا ما نسمع عن اختراع آلات أو وسائل أو مواد جديدة ولم تكن هناك حاجة إليها حين أُنتجت، ولذلك يمتنع منتجوها عن طرحها في الأسواق حتى يقوموا بخلق الحاجة إليها، انطلاقا من قاعدة «العرض يخلق الطلب». ومن هنا يأتي الفرق بين من يمتلك التقانة باختراعها أو تطويرها وبين من يقتنيها بالشراء، فمن يخترع التقانة يستطيع تحديد موعد وكيفية استخدامها، أما من يقتنيها بالشراء فإنه مجرد مستفيد بها، واقتناؤه لها هو في كثير من الحالات اقتناء مقيد لا يسمح بتملكه إياها ملكية مطلقة، أي بعبارة أخرى ملكية انتفاع لا ملكية تصرّف. والمقصود بالتقانة الحديثة، على سبيل المثال لا الحصر، تلك المتصلة بصناعة الأدوية والاتصالات ووسائل النقل والحواسيب وعلوم الفضاء والتقانة المتصلة بالقدرات العسكرية، وكذلك التقانة المتصلة بالزراعة وإنتاج الأغذية.

وبناء على ذلك يمكن القول إن العالم ينقسم في قدرته على إنتاج واستخدام التقانة الحديثة إلى ثلاث مجموعات: دول تنتج أكثر ما تحتاجه من التقانة وتستطيع احتكارها إما بمنع الآخرين من استخدامها أو السماح بتصدير ما تراه منها لمن تراه من الدول، وبأسعار عالية تدر على الدولة المصدرة مداخيل تشكل جزءا كبيرا من قيمة صادراتها وإيراداتها. وتستخدم تلك الدول في احتكارها للتقانة طريقتين، إما المنع المباشر لتصديرها إلا بترخيص، باعتبار أن امتلاك دول أخرى لذلك النوع من التقانة يتعارض مع مصالحها وأمنها القومي، أو أنها تستخدم ما يعرف بحقوق الملكية الفكرية، وذلك في إطار منظمة الأمم المتحدة للملكية الفكرية WIPO أو اتفاقية منظمة التجارة العالمية WTO على أساس أن اختراع تلك التقانة هو حق لمنتجيها، وأن تصديرها أو السماح بنسخها أو تقليدها يضر بمصالحهم الاقتصادية. وأشهر الدول التي تنتج التقانة الحديثة الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوربية واليابان وكوريا وروسيا وقد انضمت الصين إليها مؤخرا. وضمن هذه المجموعة يمكن اعتبار دول أخرى استطاعت إنتاج أو تطوير أنواع معينة من التقانة، ولكن على حساب إنتاج أشياء أكثر إلحاحا لسد حاجات الإنسان فيها، والسبب في اضطرارها إلى ذلك شعورها بعدم الأمان من دول مناوئة لها. ومثال على ذلك إنتاج باكستان للتقانة النووية، وإنتاج كوريا الشمالية للتقانة النووية وتقانة الصواريخ، وإيران في إنتاج تقانة الصواريخ والأقمار الصناعية، وهي أيضا في طريقها لإنتاج التقانة النووية، وكذلك كان العراق حين طور تقانة الصواريخ وبدأ في تطوير الأقمار الصناعية في نهاية القرن الماضي.

وفي المجموعة الثانية دول أخرى تشتري بعض التقانة لأسباب علمية أو اقتصادية أو للرفاهية و الاستهلاك العام أو لمجرد المباهاة و التفاخر أو لتحقيق سبق في غير محله، و هي تدفع في سبيل ذلك مبالغ طائلة. وهناك فريق ثالث من الدول لا تمتلك المعرفة اللازمة لإنتاج التقانة الحديثة ولا تملك المال اللازم لاقتناء كل حاجاتها منها، وتكتفي باستيراد الضروري متى ما توفرت لها الموارد. مما لا شك إن امتلاك التقانة من خلال تطويرها يجب أن يكون هدفا واضحا في سياسات وخطط الدول التي تسعى إلى التقدم والاعتماد على الذات في المجالات التي تحدد مستقبلها.

ومنذ فترة طويلة، خاصة منذ الحرب العالمية الثانية، أصبح إنتاج التقانة والحصول عليها والتحكم في تجارتها جزءا من السياسة الدولية، بغض النظر عما إذا كانت تقانة مدنية أم عسكرية، فخلال فترة الحرب الباردة مثلا فرضت أمريكا قيودا على تصدير أجهزة الحاسب الآلي إلى الاتحاد السوفييتي، ولا تزال معظم الدول تقيّد تصدير بعض التقانة التي تنتجها حتى إلى حلفائها. وفي المقابل هناك دول ترى أن التقرب أو «التحالف» مع دول أخرى كفيل بحصولها على التقانة المتقدمة التي تريدها، بل إن هناك من يتوهم أن التقانة والأموال والثروات هي في يد دول أو قوم بعينهم يتوارثونها ولا يمكن لدول أو أقوام آخرين المنافسة في ذلك. وفي الحقيقة إن امتلاك التقانة ملكية مطلقة متاح لكل دولة تطمح إلى امتلاكها، لكن عليها أن تؤسس لذلك بتعليم جيد وبحث علمي متواصل وجهد دؤوب داخل البلد وبكوادرها الوطنية وقدراتها الذاتية، مع الاستعانة في ذلك بمن أمكن من الخبراء الأجانب.

ومن المناسب التذكير ببعض الخطوات التي قامت بها السلطة منذ سنوات في سبيل تطوير التقانة في قطاع الزراعة حين عملت على تحسين سلالات من القمح عن طريق الفرز والانتخاب، ثم جاءت الخطوة الأهم في تسعينات القرن الماضي حين أنشأت مختبر الزراعة النسيجية في منطقة جماح بولاية بهلا، الذي تم فيه تطوير تقانة حديثة لتحسين وإكثار سلالات مختلفة من النخيل، وذلك بجهد مشترك بين خبراء عمانيين وخبير من الخارج، ولا يزال المختبر يؤدي دورا مهما في مجال الزراعة النسيجية مما مكن من إكثار أنواع من النخيل وأشجار أخرى عالية الجودة والتوسع في زراعتها. كذلك اعتمدت السلطنة «المنظومة الوطنية لنقل التكنولوجيا» وذلك في إطار التعاون بين مجلس البحث العلمي (سابقا) ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا). وتهدف «المنظومة» إلى وضع إطار للنهوض بالقدرات الوطنية للابتكار من خلال تحديث التشريعات والسياسات التي لها علاقة به، وكذلك إنشاء وحدات أو مكاتب للابتكار في الجامعات. وقد ورد في «المنظومة» تعريف مصطلح نقل التقانة بأنه «عملية نقل النتائج العلمية من مؤسسة إلى أخرى بغرض تطويرها واستغلالها تجاريا». ومن هذا التعريف العلمي، الذي صاغه مديرو برامج التقانة في جامعات عالمية، يتضح أن نقل التكنولوجيا بهدف امتلاكها للاستفادة منها يجب أن يصحبه «تطوير» لها وأن الهدف من ذلك هو «استغلالها تجاريا»، بمعنى أن الهدف يجب أن لا يكون كما يتصوره البعض لتحقيق شهرة أو لمجرد إحراز سبق. لذلك فإن الامتلاك الحقيقي للتقانة الحديثة لا يكون بمجرد شرائها من منتجيها بل بتطويرها داخل البلاد من قِبَل أبنائها، ويجب أن يكون الهدف من ذلك الاستفادة منها معرفيا وتجاريا وليس مجرد التباهي أو التفاخر.

وبالرجوع إلى ما ورد أعلاه من بدايات لتطوير بعض جوانب التقانة في عمان، إلى جانب مبادرات أخرى لم نعلم بها، وحيث أن الظروف أصبحت أكثر إلحاحا وأكثر ملاءمة من ذي قبل، بفضل ما يتوافر من كوادر وخبرات عمانية، فإنه يجب الدفع بتطوير التقانة وتقديم الدعم اللازم لمطوريها، خاصة في المجالات التي تزداد حاجة البلاد إليها بشكل مطرد، مثل الأدوية والمستلزمات الطبية، وتقانة تحليلة وتنقية المياه، وتقانة الطاقة الشمسية، إلى غير ذلك.

«وما استعصى على قومٍ منالٌ

إذا الإقدامُ كانَ لهم ركابا».

  • باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية