أفكار وآراء

الملابس .. المتفق والمختلف على هويتها الوطنية

21 فبراير 2021
21 فبراير 2021

أحمد بن سالم الفلاحي

[email protected]

تحظى الثياب أو الملابس؛ في حالتيها (التقليدية/ الحديثة) بعناية خاصة، وكبيرة من قبل أفراد المجتمع من قبل كل فئات المجتمع بلا استثناء، سواء من علية القوم، إلى أفقرهم، وذلك للأهمية الخاصة بالثياب، ليس فقط لأنها ضرورة حتمية للمحافظة على الجسم من تقلبات الطقس، وإظهاره المظهر الأنيق، ولكن المسألة تتعدى ذلك إلى أهداف كثيرة، ومتنوعة، يشكل المظهر الأنيق أولوياتها القصوى، وتذهب الصورة إلى إبراز أهمية الشخص، ومكانته الاجتماعية، وقدرته المادية، ورغد العيش الذي يعيش فيه، مع استحضار ثيمة التنافس على الموضة، وما تتطلبه هذه الموضة من تغيير، وتدرج، سواء في الشكل، أو في اللون، وذلك حسب المناسبة، وحسب فصول السنة كذلك، وعلى مرور الزمن بقيت هذه الأهمية محافظة على توهجها وتألقها، ولا تزال تحظى بذات الاهتمام لدى كل الشعوب الإنسانية كما نلاحظ عبر الوسائل المختلفة، وما مهرجانات الـ "موضة" التي تقام في أغلب دول العالم ببعيد.

فمن ذا الذي لا تشغله ملابسه؛ الخارجية منها على وجه الخصوص؟ ومن ذا الذي لا يعمل جاهدا على اختيار اللون، والنوع، والشكل، حتى ولو كلفه ذلك الكثير من المشقة في البحث، وربما السفر إلى مسافات بعيدة؟ من ذا الذي لا يحرص على تغيير ملابسه في كل مناسبة، وأقلها كل عام؛ بغية أن لا تفوته فرصة مسايرة الموضة، أو التباهي أمام مرافقيه بأنه إنسان عصره؟ من ذا الذي تفوته الألوان، والخامات، والأشكال، والتصميمات، وهو يفصل ملابسه في كل مرة؟ من ذا الذي لا يدفع مئات الريالات – في مجتمعنا العماني – كل عام لأجل ملابس تقليدية، أو ملابس حديثة سواء للمناسبات، أو للسفر والاستجمام، أو للخروج عن المألوف، وعند النساء القصة تطول، وتأخذ تشعبات كثيرة، وتخضع لاعتبارات أكثر؟.

أظهرت التصاميم الأولى للثياب في السلطنة – حتى فترة الثمانينيات من القرن العشرين - لكلا النوعين الكثير من البساطة في التصميم، وفي الألوان، وفي الأشكال، وخاصة الثياب الخاصة بالنساء، ولكن مع مرور الزمن تعقدت هذه الثياب في تصاميمها، وألوانها، والأشكال التي ألحقت بها، فأصبحت مزيجا من ألوان تكاد تخل بقيمتها الفنية الملصقة بهويتها المحلية، وإن عد ذلك نوعا من التطور في الموضة بالنسبة بلباس المرأة التقليدي، فإن هذا التغيير المخل بقيمة الهوية المحلية، لن يكون مقبولا في ثياب الرجل، المحتكم على بقاء تصاميمها بالهيبة والشخصية والوقار، والانتماء، وقد صدرت تعليمات وتوجيهات عديدة من الجهات المختصة في شأن المحافظة على الدشداشة العمانية لكلا النوعين، فيما يخص التصاميم، وعدم تغريبها عن واقعها المحلي، ومع ذلك لا تزال هناك تجاوزات تخل بهويتها المحلية، خاصة وأن من يقوم بمختلف التصاميم هم من القوى العاملة الوافدة، غير المنضبطة لمثل هذه التعليمات والتوجيهات، ومعنى ذلك لا بد من بذل جهود أكثر، ومتابعة حثيثة، حتى لا تفقد الدشداشة العمانية، خصوصيتها المحلية.

ما زلنا نعيش جدلية القبول والرفض في شأن ثيابنا؛ التقليدية على وجه الخصوص؛ وهذا الجدال المستمر يتمحور في نوعية الخياطة، وفي تغيير شكل الدشداشة، وتصاميمها المختلفة، وقد يصل الأمر حتى في ألوانها، وخاصة في مناسبات بعينها، وهذا الجدل مرده الخوف على هويتها المحلية، وعلى انتمائها الاجتماعي الخالص بالمجتمع العماني، حيث لا تزال هناك حالات من المناكفة، والمصادمة بين الجيلين، فجيل كبار السن، ينظر إلى الدشداشة على أنها هوية وطن، وجيل صغار السن، لا ينزلها هذه المنزلة المباركة، وإنما يتعامل معها كأي قطعة قماش قابلة للتغيير والتبديل، والتحوير، ولا يزال الجدل قائما، ولقد قرأت خلال الأسبوع الماضي تغريدة والرد عليها بين شابة وشاب من أبناء هذا الوطن؛ وهي مشاكسة كمثل كثير من المشاكسات التي تحدث في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي؛ غالبا؛ ما تثير فينا شيئا من الاستفزاز، وهو استفزاز صحي عندما يذهب إلى البحث عن مظان موضوع هذه المشاكسة أو تلك، حيث غردت إحدى الأخوات قائلة: "الكمة ليست عمانية وإنما إفريقية؛ دخلت لعمان في خمسينيات القرن الماضي عن طريق التجار القادمين من إفريقيا، وبدت تنتشر. شخصيا لا أحبها نهائيا .. ليت طلابنا يداومون يوميا بالمصر العماني أساس الهوية العمانية .. لأن الحركات الغريبة التي تنعمل بها الكمة عجيبة وغريبة لم تكن موجودة سابقا" – انتهى النص – فجاء الرد على هذه التغريدة من أحد الأخوة؛ حسب النص التالي: "أستاذة إخراج الشعر من الأمام والعباة والشنطة التي تحملها المرأة هيه دخيلة على المجتمع العماني، وأنا لا أحبها نهائيا .. ليت الطالبات يداومون بليسو وشمبر وسروال عماني، ويحطوا الصندل أساس الهوية العمانية .. لأن الموديلات الغريبة التي تظهر على العباة والحجاب لم تكن موجودة سابقا" -انتهى النص -.

في أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين عمد الاستعمار في تدخله على تغيير تصاميم الثياب في الأقاليم التي استعمرها، بغية إحداث قطع في هويات الشعوب، وخروج جيل غير منتمٍ لمحليته الخالصة، وقبل ذلك بفرض القوة، حتى أدمنت الأجيال هذا الواقع، ولكن ما هو عذر الأجيال اليوم التي تنساق وراء الموضة، وتنسحب شيئا فشيئا من محليتها وتقليديتها، متعاطفة بشكل سريع مع ما يأتيها من شعوب أخرى، تنفصل عنها انفصالا قطعيا في القيم والتقاليد، والجغرافيا، ربما قد تعذر العوام من الناس سهولة انسحابهم، ولكنك تستنكر؛ وبقوة؛ علية القوم الذي يتبنون أفكار التغيير المخل بالقيمة الفنية للباس التقليدي.

من جميل ما قرأت عن هذا الموضوع ما كتبته الباحثة (جينيفر سكيرس) التي شغلت منصب أمين قسم الشرق الأوسط والهند في المتحف الملكي الاسكتلندي، والتي صدر لها عام 1981م كتاب الثياب في الشرق الأوسط، وقد جاء في كتابها (الثقافة الحضرية في مدن الشرق) النص التالي: "كانت تقاليد الثياب مهيئة تماما لعرض المنسوجات إذ يتطلب كل من الظروف المناخية والعادات الاجتماعية أن يكون الجسد الإنساني مكسوا وملفوفا بطبقات من القماش، وكانت الثياب شاغلا مهما للرجال والنساء في مجتمع الشرق، وبالذات في الطبقات الثرية. إذ كانت الثياب واحدة من أقوى الدلائل على مكانة المرء الاجتماعية في كل من الحياة العامة والدائرة الخاصة بالحياة العائلية"وأضافت: "لقد كانت الطبقة العليا تخصص جزءا كبيرا من وقتها وجهدها في تجهيز ثيابها وما يلحق بها من زينة، لأن المحافظة على مظهر أنيق ومزين بالمجوهرات يعزز من مكانة عوائلهم الاجتماعية، وكانت أنماط الثياب تتمايز بالجمع بين أقمشة مزخرفة بإسهاب، مما أوجد مجالا منوعا أمام الذوق الشخصي"واختتمت قائلة: " فقد تسللت تدريجيا الأنماط الأوروبية إلى حرملك الطبقات الثرية في إسطنبول والقاهرة، حيث تراجعت الملابس التقليدية أمام الملابس الجاهزة".

كما يقول المؤرخ فينسان كابديبوي، في مقال بموقع "أوريان21" (Orientxii) الفرنسي، إن الكوفية كانت "غطاء الرأس التقليدي للفلاحين والبدو في شبه الجزيرة العربية" ولكنها اكتسبت أهمية سياسية منذ عام 1936 أثناء الثورة الفلسطينية ضد المحتل البريطاني، وتبناها في الثمانينيات المتظاهرون الشباب، قبل أن يستعيرها مصممو الأزياء والعلامات التجارية الكبيرة للملابس الجاهزة" حسب موقع: (https://www.aljazeera.net).

أختم هنا بالقول: في الوقت الذي عُوّل على فرد القرية، أو البادية في تمسكه بالصورة التقليدية في اللباس، والدشداشة؛ على وجه الخصوص؛ ونظر على فرد المدينة على أنه الأقرب في التحول عن هذه التقليدية، من خلال إدخال الكثير من التغييرات على تصاميم الدشداشة، إلا أن الأول لم يصمد كثيرا، وانجر وراء الموضة، وهذه الموضة غيبت، وغربت تلك الصورة التقليدية المعروفة عن تصاميم الدشداشة العمانية، لكلا النوعين على حد سواء، فأصبحت هذه الدشداشة الرمز، بعيدة عن محليتها في تصاميم معينة، فلا هي منتمية إلى أصالتها، ولا هي متخذة هوية أخرى، فأصبحت معلقة بلا هوية، ففقدت رمزيتها المحلية، من خلال ما حملت من تصاميم ليس لها علاقة بهذه المحلية.