أفكار وآراء

الديمقراطية البولندية فـي مــرمى النـيران

17 فبراير 2021
17 فبراير 2021

آدم ميتشنيك -

لم تشهد بولندا أي شيء من هذا القبيل من قبل قَـط. في العاشر من فبراير ، أوقفت الصحف والمجلات إصداراتها المطبوعة، وأظلمت المواقع الإخبارية على شبكة الإنترنت، وتوقفت عشرات المحطات الإذاعية والتلفزيونية عن البث. بعد ثلاثين عاما من سقوط سور برلين، وإلغاء الرقابة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، يعود المجتمع المدني في بولندا مرة أخرى إلى الدفاع عن ديمقراطيته التي انتزعها بشق الأنفس من دولة عازمة على التخلص منها.

الواقع أن السياسات التي تحتج عليها المنافذ الإعلامية المستقلة في بولندا جعلتها عُـرضَـة لمخاطر لا تقل جسامة عن تلك التي تواجه نظيراتها في روسيا والمجر. وكما اعترف علنا نائب رئيس الوزراء ياروسواف كاتشينسكي، حاكم بولندا الفعلي، فإن نظامه يتخذ من نظيره المجري في عهد رئيس الوزراء فيكتور أوربان نموذجا له. وعلى هذا، فإذا كنا راغبين في فهم احتجاج وسائل الإعلام البولندية بالصمت، فإن الأمر يستحق استدعاء التجربة المجرية.

بعد عودته إلى السلطة في عام 2010، اعتمد أوربان، العازم على ترسيخ ما أسماه «الديمقراطية غير الليبرالية»، على تكتيكات «السلامي» التي اخترعها ماتياس راكوسي الذي وُصِـف بأنه ستالين المجري، لتأسيس الحكم الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية. في كفاحهم ضد «العدو الطبقي»، عمل الشيوعيون بقيادة راكوسي على تقليص المؤسسات الحرة بشكل منهجي، شريحة تلو الأخرى، حتى لم يتبق منها سوى الغلاف. وقد عمل أوربان على تكييف هذه التكتيكات بما يتناسب مع القرن الحادي والعشرين، واقتدى به كاتشينسكي في ذلك. كانت الشريحة الأولى، آنذاك والآن، هي وسائل الإعلام العامة، التي جرى تحويلها إلى الناطق بلسان حزب القانون والعدالة الحاكم بزعامة كاتشينسكي. والآن تنشر المنافذ الإخبارية الرسمية في بولندا سيلا لا ينقطع من الأكاذيب والافتراءات والتشهير، على النحو الذي يذكرنا بأساتذة مخضرمين في الدعاية من أمثال جوزيف جوبلز وأندريه شدانوف. وكانت المحكمة الدستورية، ومكتب المدعي العام، والمؤسسات الثقافية، هي التالية على قائمة المؤسسات المطلوب تسييسها وإخضاعها للحزب الحاكم. وشيئا فشيئا، تحولت دولة ديمقراطية يحكمها القانون إلى واجهة زائفة لحكم استبدادي، على غرار قرية بوتمكن. في اقتدائه بمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأوربان، لم يعد حزب القانون والعدالة راضيا عن السيطرة على وسائل الإعلام العامة وولاء المواقع والصحف الموالية للحكومة، والآن يحول اهتمامه نحو خنق المنافذ الإخبارية المستقلة. فلا يكفي تزوير التاريخ وإخفاء فضائح الفساد. ولا تكفي سلسلة الدعاوى القضائية ضد منتقدي الحكومة ــ التي تقيمها الحكومة أحيانا ويقيمها أحيانا أخرى أفراد أو مجموعات بناء على طلب الحكومة. بل يجب تدمير كل المنظمات الإعلامية التي لا تخضع لسيطرة نظام حزب القانون والعدالة وتلك التي لا تخدم مصالحه. على هذه الخلفية، تُـعَـد ضريبة الإعلانات التي يخطط النظام لفرضها، والتي أشعلت شرارة الجولة الحالية من احتجاجات وسائل الإعلام، مجرد شريحة أخرى من تكتيك السلامي. وهذه الضريبة ليست مجرد عبء مالي ثقيل وتمييزي، بل هي أيضا سلاح لخنق الانتقادات وحرية التعبير.

يعتمد بقاء معظم المنافذ الإخبارية المستقلة على عائدات الإعلانات، التي تراجعت بشدة بالفعل في ظل الاقتصاد الذي دمرته الجائحة. وحرمان هذه المنافذ من المزيد من الدخل من شأنه أن يجبرها على الاستغناء عن الصحفيين وخفض الميزانيات المخصصة لمهام أساسية، مثل التحقق من صحة البيانات الحكومية وإجراء التحقيقات في المخالفات الرسمية. وما يزيد الطين بلة أن العائدات من ضريبة الإعلانات سيجري تحويلها إلى وسائل الإعلام الموالية للحكومة.

أما ادعاء الحكومة بأن الضريبة تنطبق في المقام الأول على شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة، التي تتهرب من سداد الرسوم على مبيعاتها في أوروبا، فهو كذب واضح. الواقع أن حكومة حزب القانون والعدالة، الخانعة تماما لرئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب، رفضت فرض الضريبة على أباطرة وادي السليكون. علاوة على ذلك، يجب أن يحظى تحصيل مثل هذه الضريبة بموافقة العديد من البلدان، وخاصة تلك في الاتحاد الأوروبي. وليس لدى بولندا أي فرصة لفرض رغباتها على شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة بدون الاتحاد الأوروبي، الذي انعزلت عنه حكومة حزب القانون والعدالة. إن هجوم نظام حزب القانون والعدالة على الركائز الاقتصادية التي تستند إليها وسائل الإعلام الحرة ليس أقل اعتداء على الديمقراطية من اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكونجرس الأمريكي في كابيتول هِـل في السادس من يناير. ووراء كل من الواقعتين تكمن الأكاذيب، والخطاب المحرض على العنف، وتشويه وإفساد السياسة والحياة العامة.

وقد أظهرت حكومة حزب القانون والعدالة أيضا ازدراءها لحكم القانون وحقوق الإنسان، ناهيك عن وسائل الإعلام المستقلة. ويتلخص الدليل على هذا في وفرة من الفضائح الحكومية، والفساد المستشري (بما في ذلك في مكافحة الجائحة)، وتحويل المناهج المدرسية إلى حالة قومية مبتذلة، واستخدام قوات الشرطة كأداة وحرس شخصي لنظام حزب القانون والعدالة. في صميم هذه السياسات ــ حيثما جرى تبنيها ــ لا يكمن الخوف من الحرية والحقيقة وحسب، بل وأيضا الرغبة في زرع هذا الخوف في مجتمعاتنا. ويجب أن تكون كل المحاكم البولندية مكبوحة وخاضعة للسيطرة كتلك في موسكو، والتي يمكنها محاكمة وإدانة ومعاقبة معارضي الكرملين في وقت قياسي، كما أوضحت قضية أليكسي نافالني الأخيرة. ومن المفترض أن تتحدث جميع وسائل الإعلام البولندية بصوت واحد، مثل تلك التي تمتدح بوتين أو أوربان. أخبرني زميل، وهو مراقب ثاقب الإدراك للسياسة المعاصرة: «كمحلل للأحداث، أستطيع أن أقول لك إن أعداء الحرية من الممكن أن ينتصروا. وكمواطن، سأطلب منك أن تعدني بأنك ستبذل قصارى جهدك لمنع حدوث أمر كهذا». فأجبته: أعدك بذلك.

**زعيم حركة تضامن عام 1989 ومشارك في محادثات المائدة المستديرة التي أنهت الحكم الشيوعي في بولندا ، رئيس تحرير جريدة Gazeta Wyborcza.

** خدمة بروجيكت سنديكيت