أفكار وآراء

في جدل التحديث والمدينة!

17 فبراير 2021
17 فبراير 2021

محمد جميل أحمد -

فيما تبدو الحداثة الأداتية (التحديث) اليوم هي المظهر العام والبارز في الجانب المادي والتقني للعالم الحديث (هي حداثة أصبح بالإمكان استعارتها بطرائق التقليد)، لا ينتبه كثيرون إلى أن الشرط الأول الذي كان وراء تلك الحداثة الأداتية (التحديث) هو الفكر التنويري وقيمه العليا؛ كالحوار، والمعرفة، والحرية، والديمقراطية، والنسبية الثقافية، (التي كانت الحداثة الأداتية من ثمارها في نهاية المطاف) بما يعني أيضاً، أن أي هوية أداتية للحداثة في غياب الجانب الفكري والقيمي منها، لا يمكن أن تعكس طبيعةً خاصة، ونماذج ذاتية عاكسةً لدلالاتها الفلسفية في طابع الأشكال التي تحيل إليها.

وهكذا، حين نرى العمارة اليوم، على سبيل المثال، في معالم الحداثة الأداتية، من خلال تجلياتها في دول لم تشهد استبطاناً عميقاً لقيم الحداثة والتنوير، كالدول العربية، سنجد أن التعبيرات المعمارية تلك تعكس في حقيقتها رؤيةً مستعارة، وبناءات مشيدة فقط من خلال فكرة «المقاولات» التجارية، دون أي اختبار خاص لأي بصمة ذاتية في ذلك المعمار، كالمعمار الذي نراه في مدينة دبي مثلا.

إن الوعي الذاتي في الفلسفة المعمارية سنجد تعبيراته في الدول التي شهدت قبل ذلك حداثة فكرية (فلسفية تنويرية بالأساس) معكوسةً كهوية خاصة، مثل (برج بيزا المائل) في إيطاليا، وبرج (إيفل) في باريس، وساعة (بغ بن) في لندن، وغيرها من معالم الفلسفة المعمارية الخاصة عبر هويتها المحلية في التصميم.

بطبيعة الحال، ثمة خصائص فلسفية لحداثة المعمار، لكن ، في الوقت ذاته، تستند طرائق المعمار وتصماميه إلى اندماج في شروط البيئة والمناخ بطرق تجعل من المواءمة بين الهوية الخاصة وبين الاندماج في شروط البيئة مختلفةً بين دولة أوروبية وأخرى، بالرغم من المناخ الواحد الذي ينتظم قارة أوروبا في الفصول الأربعة.

إلى جانب ذلك، تعكس هوية المدينة في معمارها الأساس، أي من حيث كونها إطاراً معماريا لـ « شراكة كافية للعيش، والدستور الذي سُنَّ بهدف الرقي بالحياة» بحسب سقراط؛ دلالةً واضحة على ضرورة التفكير بالكيفية التي يريد بها البشر العيش في حياة قائمة على الاندماج بينهم كأفراد ومواطنين (سكان المدن) في إرادة العيش بحميمية مع الغرباء. ولهذا يطلق مفهوم «التمدن» للدلالة على اكتساب مهارات العيش في محيط متعدد ومتنوع من البشر عبر علاقات حميمية وسوية.

فالمدينة بكونها خلفية معمارية للتفاعلات العامة والحيوات الخاصة تمثل، أيضاً: « حالة ذهنية » ــ بحسب روبرت بارك (زعيم مدرسة شيكاغو لعلم الاجتماع الحضري) تبلور القوى الاجتماعية في نسيجها، وتترجم انعكاساً خارجياً لحياة داخلية في سياقات مختلفة، عبر مؤسساتها الحديثة.

إن تخطيط المدن، الذي هو عين الحداثة الأداتية وصورتها الجديدة للعمران، ليس فقط تخطيطاً مادياً أو ظاهرياً، وإنما هو كذلك تعبير عن بنية رمزية للاجتماع والتنوع وتنظيم الحياة وفق أرقى أنماط العيش. ولعل هذا المعنى هو المعنى الأكثر بروزاً في المجتمعات الغربية التي أنتجت الحداثة. فتلك المجتمعات، وعلى رأسها مجتمع الولايات المتحدة، هي المجتمعات الأكثر انفتاحاً على الجماعات البشرية المختلفة والأكثر خبرةً لإدارة التنوع وتقبل الاختلاف من خلال فكرة المواطنة والمساواة.

ذلك أن عمارة المدينة لا تعني الاستقرار فقط، بل تعني، كذلك، القدرة على استيعاب فكرة التعايش مع الآخر وتطوير مهارات ذلك التعايش.

ولعله من الجدير بالذكر هنا أن نؤكد على أن استيعاب قيمة التعايش، فضلا عن اقترانه اقتراناً شرطياً مع فكرة الحداثة الأداتية أو فكرة التحديث. إلا أنه يشترط في الوقت ذاته استيعاباً لفكرة الاختلاف مع الآخر وفق أرقى أنماط العيش كرامة، كما أصبحت الولايات المتحدة النموذج الأمثل لهذا التعايش من خلال كونها (أمة من المهاجرين) ومن خلال البرنامج الوطني للهجرة الذي يستوعب سنوياً 50 ألف مهاجر من كافة بلدان العالم. مما يؤكد أن فكرة التعايش في الغرب ليست وليدة الصدفة، بل كانت صيرورة من التجارب المجتمعية المتفاعلة مع الأفكار الإنسانية للتنوير والحداثة.

هكذا سنجد علاقة عضوية لا تنفصم بين الحداثة الأداتية (التحديث) وبين الأسباب والشروط التي جعلت من ظاهرة المدن متلازمة في التعبير عن تذرر نمط الحياة القديمة سواء من حيث الأسر الممتدة، أو لجهة العيش الفردي الذي يعيد تعريف الفرد كمواطن في المدينة، وليس كجزء من قبيلة أو طائفة!.