أفكار وآراء

الحرب على الإعلام الدولي .. ليست حربا خارج الديار!!

16 فبراير 2021
16 فبراير 2021

أ.د. حسني محمد نصر -

قد يكون من الطبيعي والمنطقي أن توظف الدول وسائل إعلامها ذات الطابع الإقليمي أو العالمي في إدارة صراعاتها وحروبها الساخنة والباردة مع الدول الأخرى، ولكن من غير الطبيعي أن تتحول هذه الصراعات والحروب من صراعات وحروب بالإعلام إلى صراعات وحروب على وسائل الإعلام الدولية، التي أصبحت في مرمى نيران المدفعية الثقيلة للحرب الإعلامية التي تدور في العالم، خاصة بين القوى الكبرى، وهو ما يهدد حرية هذه الوسائل، ويحد من قدرتها على الوفاء بحقوق مواطنيها العالميين -ونحن منهم- في البقاء على اطلاع دائم على ما يدور في العالم من أحداث.

الأسبوع الماضي شهد جانبا من هذه الحرب بين الصين وبريطانيا، كانت ضحيته خدمة هيئة الإذاعة البريطانية الإخبارية الدولية (بي بي سي ورلد نيوز) التي مُنعت من البث في الصين وهونج كونج، بزعم أن تغطيتها للصين «انتهكت متطلبات تغطية الأخبار، ولم تكن صادقة ومنحازة، وأضرت بمصالح الصين القومية ووحدتها العرقية».

واقع الحال أن هذا المنع الذي اعتادت الصين عليه لم يأت من فراغ، ولم يأت فقط كما جاء في بيان إدارة الراديو والتلفزيون الصينية القومية الذي صدر مساء الجمعة الفائتة لأن «بي بي سي» انتهكت قواعد البث، وإنما جاء أيضا ردا وانتقاما من قرار مماثل، كانت قد اتخذته السلطات البريطانية هذا الشهر بإلغاء الترخيص الممنوح لقناة الصين الإخبارية الناطقة باللغة الإنجليزية، ومنعها من العمل في بريطانيا بعد اكتشاف ما زعمت هيئة تنظيم الاتصالات البريطانية-أوفكوم- أنه ارتباط وثيق بين القناة وبين الحزب الشيوعي الصيني، خاصة وأن القناة سبق أن تعرضت للتوبيخ من جانب الهيئة البريطانية لبثها الاعتراف القسري لسجين بريطاني في الصين، وللتغطية المنحازة التي تقدمها للحركة الديمقراطية التي تدعمها بريطانيا في هونغ كونغ.

القرار الصيني بمنع هيئة الإذاعة البريطانية من البث، رغم أنه ليس جديدا على الصين في التعامل مع وسائل الإعلام الدولية، يثير في الحقيقة مخاوف عديدة من أن تنهج دول أخرى نفس النهج الصيني وتمنع وسائل الإعلام الدولية من الوصول إلى أراضيها، سواء عبر منع البث الفضائي أو الخدمات التلفزيونية المدفوعة أو حتى عبر شبكة الإنترنت، وهو ما يهدد العالم بالعودة إلى عصر الحرب الباردة، وعصر ما قبل الثورة الرقمية، خاصة إذا فهمنا القرار الصيني بأنه رسالة تحذير لوسائل الإعلام الأجنبية العاملة في الصين بأنها قد تواجه نفس العقوبات إذا لم تلتزم في تغطيتها للأحداث بالرؤية الصينية في التعامل مع إقليم شينجيانغ والأقاليم الصينية الأخرى التي تضم أقليات عرقية.

لا يمكن لنا أن نُبرئ طرفا من طرفي هذه الحرب الإعلامية على حساب الآخر. فالصين من جانبها تنتقد منذ فترة تقارير هيئة الإذاعة البريطانية ووسائل الإعلام الغربية الأخرى التي تتحدث عن مسؤوليتها عن انتشار فيروس كوفيد 19 في العالم، بالإضافة إلى الاتهامات الخاصة بارتكاب السلطات الصينية جرائم إبادة جماعية ضد أقلية الإيجور المسلمة، وآخرها تقرير إذاعته بي بي سي وتضمن مشاهد مروعة للاعتداءات الجنسية وعمليات التعذيب التي يتعرض لها المسلمون في إقليم شينجيانغ. وقتها قال المسؤولون الصينيون إن هذه المزاعم «غير صحيحة»، واتهموا «بي بي سي» باستخدام ممثلين في التقرير لنشر «معلومات كاذبة». على الجانب الأخر فإن القرار البريطاني الذي أشعل الأزمة من البداية بإلغاء ترخيص القناة الصينية بسبب مزاعم تتعلق بارتباطها بالحزب الشيوعي الصيني وممارسة الدعاية، حرم الصين من أداة إعلامية مهمة للغاية كانت تستخدمها لتحقيق استراتيجيتها في التغلغل في أوروبا، إذ كانت هذه القناة بمثابة مركز لعمليات الصين الإعلامية في غرب أوروبا.

ولعل ما يؤكد عمق هذه الأزمة الإعلامية وتحولها إلى حرب صريحة على وسائل الإعلام الدولية، هو دخول السياسيين ووزارات الخارجية في البلدين، وكذلك في الولايات المتحدة الأمريكية على الخط، والاشتباك في حرب تصريحات بدأها الناطق باسم الخارجية الصينية الذي اتهم القرار البريطاني بإلغاء ترخيص القناة الصينية في بريطانيا بأنه «صدر على أساس سياسي، وتحيز أيديولوجي»، وحذر بلغة واضحة بريطانيا بأن بلاده «تحتفظ بحقها في الرد لحماية حقوق ومصالح وسائل الإعلام الصينية في العالم». وكان من الطبيعي أن يدخل وزير الخارجية البريطاني على الخط أيضا بعد قرار الصين بمنع البي بي سي من البث، واعتبر هذا المنع تقييدا غير مقبول لحرية الإعلام ويدمر سمعة الصين في العالم. وبعده خرجت وزارة الخارجية الأمريكية لتنتقد القرار الصيني واعتبرته «جزءا من حملة أوسع لقمع وسائل الإعلام في الصين».

والواقع أن دخول السياسيين من الطرفين على خط أزمة إعلامية تتعلق بخدمتين تلفزيونيتين يؤكد أننا أمام حرب حقيقية على الإعلام، قد تمتد إلى دول أخرى في العالم تشكو هي الأخرى من التحيز في تغطية وسائل الإعلام الدولية لشؤونها، وهي حرب تعيد إلى الأذهان شكوى دول العالم الثالث في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي من التغطية الإعلامية العالمية المتحيزة والسلبية لها، وعدم التوازن في التدفق الإعلامي الدولي بين دول الشمال ودول الجنوب، والتي تولدت عنها فكرة إقامة نظام إعلامي عالمي جديد، عارضته بشدة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ولم ير النور على الإطلاق.

الحرب على وسائل الإعلام العالمية ووضع العراقيل أمامها لا تقتصر بالطبع على الحرب الدائرة حاليا بين الصين وبين بريطانيا، فقد سبقتها في هذا الوقت تقريبا من العام الماضي (2020) حرب مماثلة شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على وسائل الإعلام الصينية العاملة في أراضيها، ومنها وكالة أنباء الصين الجديدة «شينغوا» وشبكة التلفزيون العالمية الصينية، على خلفية مزاعم حول ممارسة هذه الوسائل للدعاية الشيوعية، عندما قررت معاملتها على أنها بعثات دبلوماسية أجنبية، يتوجب عليها الحصول على موافقات مسبقة قبل القيام بأي عمل والحصول علي تصاريح لجميع العاملين فيها من وزارة الخارجية الأمريكية. وقد ردت الصين على ذلك بفرض قيود على منح تأشيرات للمراسلين الصحفيين الأمريكيين، وإلزام مجموعات إعلامية أمريكية كبيرة تعمل في الصين، من بينها وكالة الاسوشيتدبرس، ووكالة اليونايتدبرس، والإذاعة الوطنية العامة، ونيوزويك، والتايم، بتقديم قوائم بالعاملين فيها ومصادر تمويلها وعملياتها المالية وممتلكاتها، فيما اعتبرته الصين «دفاع مشروع ومبرر عن النفس» في مواجهة القرار الأمريكي المماثل.

لا يمكن لنا ونحن نشاهد هذه الاعتداءات على وسائل الإعلام سواء البريطانية أو الأمريكية أو الصينية أن نقف مكتوفي اليد ومعصوبي العينين، ونقول إنها حرب خارج الديار وبعيدة عنا بآلاف الأميال، ولا شأن لنا بها. بل يجب علينا أن نعي ما يدور حولنا من تغيرات في المشهد الإعلامي الدولي وأن نضع هذه الصراعات والحروب الإعلامية على طاولة البحث في مؤسساتنا المسؤولة عن الإعلام الخارجي كوزارات الإعلام والخارجية ومراكز البحوث الاستراتيجية والمؤسسات الأكاديمية المعنية بالبحث في الإعلام. فإذا كانت الدول الكبرى تتعامل مع بعضها البعض إعلاميا بهذا القدر من الترصد والعداء، فكيف لها أن تتعامل معنا إذا فكرنا يوما أن يكون لنا نصيب في خريطة الإعلام العالمي، أو إذا أرادت إحدى الدول العربية الخروج للفضاء الإعلامي العالمي للوصول بقضايانا العادلة إلى الرأي العام العالمي، والتأثير في صنع القرار الدولي؟