أفكار وآراء

هل باتت «صناديق الانتخابات» غير مفيدة للحياة السياسية؟!

13 فبراير 2021
13 فبراير 2021

د. عبدالعاطي محمد -

قد يبدو العنوان صادما من البداية لأنه يأتي على شيء غير مألوف في حركة النظم السياسية والشعوب نحو البحث عما هو أفضل وفقا لما هو متاح أو ممكن عمليا، ولكن الممارسات التي لا تغفلها العين في بعض البلدان المختلفة من حيث التطور السياسي، تدفع إلى جدية التساؤل والعالم لا يزال في بدايات القرن الحادي والعشرين. وفي هذا الإطار لم يعد من المستغرب ولا المستهجن أن يتحول «صندوق الانتخابات» إلى باب خلفي لزيادة درجات الصراع وتقليل درجات التعاون بين القوى السياسية المتنافسة، أو بمعنى آخر كسر القواعد المتفق عليها دستوريا وعرفيا وثقافيا، والولوج منه إلى تحقيق الفوز بسلطة هنا أو هناك، مع كل ما يصاحب ذلك من ارتباك واحتجاج واختلاف إلى حد القطيعة داخل أعرق النظم التي تتفاخر بأنها ذهبت إلى أبعد مدى في هذا المجال.

والهدف من هذا المقال ليس بالـتأكيد التشكيك في آلية الانتخابات، فهذا ما لا يقبله العقل السليم بعد أن عاش العالم بمختلف تجارب شعوبه قرونا أكدت أنها تحقق نتائج مفيدة في الحياة السياسية، ولكن التأكيد على أن هذه الآلية ليست معيارا كافيا ومقنعا للقياس على نجاح تجربة سياسية ما تمتلك مقاليد الشرعية وتقيم الحكم الرشيد الذي يحقق لآمال الشعوب في الاستقرار والرفاهية، بل هناك متطلبات أخرى ضرورية تجعل الطريق إلى استخدام هذه الآلية محصنا من الأخطاء. ولا تقف هذه المتطلبات عند توفير أطر دستورية جيدة، وإنما تمتد بالإضافة لذلك إلى عناصر أخرى ربما لم تكن حاضرة بدرجة كافية في القرون الماضية، ونتجت اليوم عن مستجدات جاءت بها الملكات الشخصية المرتبطة بمكانة ونفوذ المتنافسين وقدراتهم على القيام بمهامهم بنجاح، وحجم الخلافات فيما بينهم ما إذا كانت محدودة. أو كبيرة خصوصا عندما تصل إلى حد المعادلة الصفرية أي إما معي أو ضدي، والتقلب الحاد والمفاجئ للبيئة الدولية بوصفها الظروف الخارجية التي يعمل فيها أي نظام سياسي، ذلك التقلب الذي جعل الصراع المبدأ الأقوى في إدارة الحياة السياسية وليس التعاون. ولا يقل أهمية عن هذا وذاك ما إذا كان النظام السياسي القائم يمتلك الفاعلية في أداء مهامه الأساسية التي لا يختلف عليها أحد وهى الأمن والاستقرار والوحدة الداخلية والإنجاز الاقتصادي (التنمية المستدامة). وهذه العناصر كلها لا يصنعها صندوق الانتخابات، وإنما هو نتيجة لها إذا ما كان حقا مؤشرا على حيوية الحياة السياسية، ولعل غياب العناصر السابقة أو ضعفها هو الذي يفرض التساؤل المشروع عما إذا كان صندوق الانتخابات يساهم حقا عند ممارسته، في ظل غياب هذه العناصر، في دعمها أم يؤدى إلى العكس تماما حيث تنفجر الخلافات وتتراجع الأمم إلى الوراء؟!.

المناسبة هي توالي المؤشرات في العقد الأخير على وجه الخصوص، على انحراف الممارسة عبر الانتخابات في بلدان بعضها ينتمي للعالم المتقدم وفي القلب يحضرنا المثال الأمريكي المتعلق بالانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أزاحت دونالد ترامب عن البيت الأبيض وجاءت بخصمه جو بايدن، والبعض الآخر من عالم مختلف تماما من حيث الممارسة الديمقراطية على النمط الغربي كما جرى في ميانمار (بورما سابقا) عندما أطاح الجيش بحكم كانت تقوده زعيمة المعارضة أونج سان سوكى منذ عام 2016، وكانت تتأهب للذهاب إلى البرلمان لكي تعلن انتصارها في الانتخابات الأخيرة. وفي الحالتين كان الاتهام بتزوير الانتخابات هو القاسم المشترك. ولاستكمال الصورة يمكن أن نعرج على الأزمة السياسية القائمة في كل من تونس والعراق وليبيا بوصفهم من التجارب الجارية في منطقتنا العربية، وهي بدورها لها علاقة بشكل أو بأخر بمسألة الجدل الذي يتكرر بخصوص أهمية الانتخابات العامة والقلق الدائم عما إذا كانت تمر بسلام ورضا شعبي ونخبوي أم هي طريق إلى إرباك الحياة السياسية وتفجير الخلافات.

في حالة الرئيس الأمريكي السابق ترامب أصر الرجل عند خسارته للانتخابات على القول بأنها كانت انتخابات مزورة، ولم يخرج من البيت الأبيض بسلام كما كان يحدث في العادة، وإنما بإثارة أزمة سياسية ستمتد إلى الانتخابات القادمة عام 2024، مضمونها انقسام حاد في المجتمع الأمريكي وتشكيك في حقيقة تفعيل القواعد الديمقراطية في بلد يعتبر نفسه النموذج الذي يجب أن يحتذى به الآخرون. وطوال الحملة الانتخابية وخلال عملية الانتخابات التي طال الإعلان عن نتائجها، ظل ترامب ومناصروه يرددون مخاوفهم من هذه العملية التي جرت هذه المرة بشكل مختلف من حيث الإجراءات بسبب وباء الكورونا، وقالوا بوضوح أن الانتخابات لن تكون سليمة بسبب هذه الإجراءات. هكذا لم تكن الانتخابات مفيدة سواء بالنسبة لترامب أو بايدن، بل أن الصندوق هذه المرة جر البلاد إلى أزمة غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي، لا لشيء إلا لأن هناك متطلبات لم تتحقق من الأصل في فترة ترامب وربما منذ فترة أوباما الثانية جعلت عملية الانتخابات عصية على أن تمر بسلام سواء ما تعلق بشخصية ترامب ذاته، وكيف كان - حسب تقارير إعلامية غربية - مولعا بدخول البيت الأبيض عام 2016 دون أن تكون له المؤهلات التي اعتادت عليها الحياة السياسية الأمريكية، وأن روسيا رصدت ذلك، ومن ثم كان لها دور في تمكينه من الفوز في تلك الانتخابات لكى يكون صديق لها. وبغض النظر عما إذا كانت هذه التقارير صحيحة أم لا، فالثابت أن ممارسة الرجل لمهامه كانت موضع استغراب، والمؤشرات على ذلك عديدة ويعلمها القارئ من متابعته لتقديرات الإعلام الأمريكي. ولم يكن العامل الشخصي وحده المؤثر في أن يجعل صندوق الانتخابات مفيدا، وإنما كان هناك العامل الخارجي سواء ما تعلق بمزاعم التدخل الروسي في الانتخابات، أو الصراع الاقتصادي مع الصين، وكذلك وقوع المجتمع الأمريكي في فخ الاستقطاب بفعل صعود التيارات اليمينية، بالإضافة إلى تأثير وباء كورونا حيث تعاملت إدارة ترامب باستخفاف مع الأزمة الصحية التي أصابت البلاد.

وفي حالة ميانمار تبدو الصورة أكثر دراماتيكية لتكشف لنا أن التطور السياسي الصحيح لا يقف بالضرورة عند ممارسة التغيير من خلال صندوق الانتخابات بل يتعين أن يسبق ذلك توافر الضمانات أو المتطلبات التي تجعله مفيدا بدلا من أن يصبح بابا خلفيا للصراع السياسي. وما يقال هنا باختصار غير مخل أن الجيش أطاح منذ أيام بحكم زعيمة المعارضة الشهيرة أونج سان سوكى قبيل أن تتوجه إلى البرلمان لتعلن فوزها في الانتخابات الأخيرة وتمدد حكمها للبلاد عدة سنوات أخرى حيث من المعروف أنها تمكنت عبر صندوق الانتخابات عام 2016 من الفوز بسدة الحكم. آنذاك لم يتدخل الجيش بل رحب، ومن ناحيتها أقامت علاقة قوية معه على عكس ما كان يأمل من انتخبها من المواطنين حيث كان ينتظر موقفا مناهضا من جانبها للجيش بسبب القمع الذي مارسه ضد مسلمي الروهينجا. وبدلا من ذلك أيدت ممارساته القمعية ضد هذه الأقلية ودافعت عنه أمام محكمة العدل الدولية. والملفت أن هذه السيدة شغلت اهتمام العالم قبل وصولها إلى الحكم، خصوصا الدول الغربية من منطلق نضالها الطويل من أجل تفعيل الحياة الديمقراطية في البلاد، ونالت جوائز دولية تقديرا لهذا الجهد منها جائزة نوبل للسلام وجوائز أخرى من منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان. ولكن وبرغم هذا التوجه اتخذت موقفا مضادا من أقلية مسلمة في البلاد، وبنت علاقة هشة مع القوة السياسية الأهم في البلاد وهى الجيش على مدى السنوات الماضية ولم تهتم بالقوة الشعبية التي أوصلتها إلى الحكم، ومن ثم كان من السهل أن يتخذ الجيش مثل هذه الخطوة التي بدت مهينة بعض الشيء لسياسية كانت تعتبرها الدول الغربية أيقونة للحياة الديمقراطية. هنا هي التي أدارت اللعبة السياسية بعيدا عن المبادئ وتصورت أن صندوق الانتخابات هو وحده الذي يضمن استمرار دورها السياسي.

في أحوالنا العربية أمثلة لهذه الفرضية وهى أن الصندوق ليس كافيا وحده لصحة الحياة السياسية، بل أصبح في بعض التجارب وسيلة للصراع وعدم الاستقرار. ففي تونس التي ينظر لها على أنها التجربة الوحيدة الناجحة فيما يسمى بالربيع العربي، باتت مهددة بعدم الاستقرار نتيجة التباين في أدوار البرلمان والرئاسة والحكومة مما أدى إلى عديد المشكلات سواء ما يتعلق بالتغيير في الحكومة أو السياسات المتعلقة بحل الأزمة الاقتصادية، وكلها مشكلات تدفع بالبلاد إلى الاحتقان السياسي ودخول القوى السياسية في حالة من الصراع وليس التعاون والتوافق. والمهم هنا أن التجربة اعتمدت أساسا على صندوق الانتخابات باعتباره الوسيلة المثلى لإدارة أي خلاف سياسي، فمن لا يعجب المواطن الآن يمكن تغييره في الانتخابات المقبلة، ولكن التجربة لم تأخذ في الاعتبار أن الانتخابات هي في نهاية المطاف نتيجة لتوافر عناصر عديدة سبق الإشارة إليها وليست سببا. ونفس المشهد قائم في العراق، حيث تعيش البلاد مرحلة صعبة لتحقيق الإصلاح السياسي المنشود، وتتم المراهنة أيضا على صندوق الانتخابات (في الصيف المقبل) ولكنها تعيش حالة من الاستقطاب السياسي بين مختلف القوى السياسية النافذة، والغياب الأمني وازدياد البطالة ومصاعب اقتصادية جمة، وليبيا سعيدة بما تم التوصل إليه عبر آلية الحوار السياسي حيث ساد الاتفاق على خريطة طريق أولها مسألة الرئاسة للدولة والحكومة. ولكن هذا الإنجاز تم ربطه بآلية الانتخابات العامة. وبرغم كل التمنيات بأن تنجح التجربة، فإن الحذر قائم حيث ليس من المستبعد أن تتعثر العملية أو أن تأتى بنتائج عكسية، لا لشيء إلا لأن المتطلبات الضرورية ليست متوفرة والرهان وحده يتركز على الصندوق!.

هذه المشكلة المتعلقة بجدوى الانتخابات في ظل غياب عدد من المتطلبات، تجد إجابة للتساؤلات بشأنها في كتاب قيم صدر مؤخرا في القاهرة للكاتب والمفكر د. وحيد عبد المجيد عن دار الثقافة الجديدة بعنوان: «ديمقراطية القرن الحادي والعشرين». وفكرته الأساسية هي أن المشكلة ليست في الديمقراطية كما عرفها العالم المعاصر، ولكن في آلياتها الداخلية. لقد قامت الديمقراطية على فكرة التمثيل للشعب، أي أن النموذج السائد منها هو الديمقراطية التمثيلية. وهذا النموذج سمح لأسباب عديدة لتمكين نخب سياسية واقتصادية محترفة من فرض نفوذها وتفريغ الديمقراطية من محتواها. والتصور الذي يتبناه الكاتب هو أن العالم سيضطر إلى تطعيم النموذج الحالي ببعض صور الديمقراطية المباشرة كاستخدام الاستفتاء العام على سياسة معينة أو استمرار حكومة دون الانتظار للانتخابات المقبلة، وتعزيز دور الرقابة ومكافحة الفساد. مما يعطي للشعب حق التدخل من وقت إلى آخر دون الانتظار لانتخابات جديدة. ولكنه تصور برغم وجاهته يعيدنا إلى نفس الضوابط السابق عرضها من ناحية، ولا يحدد سقفا لتدخل الشعب من وقت إلى آخر من ناحية أخرى، ويؤدي إلى فتح الباب للتغيير المتواصل مما يسبب عدم الاستقرار من ناحية ثالثة.

ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة