56566
56566
ولايات

حارة «شيدة» القديمة.. معلقة في خاصرة الجبل تروي عبقرية الإنسان العماني

05 فبراير 2021
05 فبراير 2021

خاص ـ عمان : -

لا يعود زائرها خاليا من الأسئلة، ولن يعتقد أنه أضاع وقته دون فائدة.. فإن لم يفز بفواكهها الجميلة وروعة مناظرها الغناء فحتما سيقع في حب تاريخها، وهندستها المعمارية المتميزة، وما تصنعه الطبيعة فيها من تدرجات لونية غاية في الروعة، وسيلامس هناك عبقرية الإنسان العماني الذي قهر الصعاب والتحديات الطبيعية. عندما ينظر إلى حارة معلقة في خاصرة الجبل.

تحت سفوح ثلاثة جبال شاهقة تعانق السماء تقع قرية «شيدة» المكونة من ثلاث حارات: «الحيل» التي غدت مثالا للحارات الحديثة والمتجددة بمبانيها الحديثة، و«الحارة القديمة» المنحوتة على خاصرة هذا الجبل الشاهق، وحارة «حيط بن سعد» وهي الحارة الأخيرة في القرية، ونشأت مؤخرا حارة جديدة وكأنها قرية مستقلة حملت اسم «ظاهر القوم» استعان بها الأهالي لضيق المساحات في الحارات السابقة ولانبساط أرضها وانفتاحها. ورغم جمال القرية ووداعتها إلا أن «الحارة القديمة» هي الأكثر جمالا والأكثر قدرة على لفت الأنظار وإثارة الأسئلة حول التاريخ وعراقة الإنسان العماني وعبقريته في البناء والهندسة حيث استطاع نحت بيوته في وسط الجبال وفوق سفوحها العالية.

عندما تفكر في زيارة «الحارة القديمة» بقرية شيدة عليك أن تسلك طريقا حديثا من وسط ولاية صحم باتجاه منظر الجبال الشاهقة وتدرجاتها اللونية، وبعد ساعة إلا ربع تقريبا ستكون مع الحارة وجها لوجه، وستعرف أنك عدت بالتاريخ إلى سنوات ماضية عندما كان الإنسان يعيش في بيوت بنيت بالطين وسقفت بجذوع النخيل، وخططت بطريقة استثنائية برع فيها الإنسان العماني. ستوقف سيارتك على الضفة اليمنى من وادي «شيدة» بينما ستكون القرية عند الضفة اليسرى. تحيط النخيل بالقرية وكأنها غابة، بينما القرية تشكل تاجا يكلل قممها العالية.

تبدو حارة شيدة «القديمة» مبنية على النمط العمراني نفسه الذي بنيت به الحارات العمانية الأخرى، لكن ما يميزها أنها بنيت في خاصرة جبل عالٍ، ما يعني أن بُناتها نحتوها نحتا في خاصرة الجبل، وشكلوها كما يشكل الفنان لوحته الجميلة. تتكون «الحارة» من عشرات البيوت القديمة المبنية بالطين بعضها صغيرة من دور واحد وبعضها الآخر كبير ومكون من دورين وبهندسة أكثر جمالا وسقوفا منقوشة وهو دليل على ثراء أصحابها ومكانتهم في الحارة. والطرقات التي تربط بين الحارة الملتوية على الجبل ضيقة جدا، وهناك صباحان: صباح خلف مسجد القرية وصباح عند مدخلها من الجهة العلوية. و«الصباح» عبارة عن ساحة يتجمع فيها الناس في مناسبات الأفراح والأتراح، وعندما يتنادون في السراء والضراء. وتحيط بالقرية عدة أبراج للحماية وهي أبراج مبنية بهندسة متقنة. كما يعلو القرية فوق قمة الجبل برج للمراقبة من المسافات البعيدة ومكان مناسب لرمي الأعداء بالأسلحة المتطورة بمنظور تلك المرحلة القديمة.

ويوجد في الحارة عدة مدارس وأماكن لتعلم القرآن وعلوم الدين واللغة. وفي داخل روازن بيوت الحارة القديمة يجد الزائر بقايا الأضاميم والمخطوطات القديمة للمصاحف وكتب الفقه والتاريخ وعلوم اللغة. ويروي أهالي القرية أن مسجد الحارة كان مسجدا نادرا جدا حيث بني على شكل صفوف مقوسة السقف، كل صف يتسع لصف واحد من المصلين وينفصل كل صف عن الصف الذي أمامه وكأنه مستقل لولا وجود معبر واحد للتعمق لداخل المسجد. وكان المسجد موجودا حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي إلا أنه هدم واستبدل بمسجد حديث وذهب معلم ديني وتراثي نادر جدا كان يمكن أن يكون أحد أبرز معالم هذه الحارة الجميلة. وما زال يوجد مسجد صغير مبني على النمط العمراني نفسه في القرية يعرف باسم «مسجد الحجرة» إلا أنه أصغر حجما ومكون من ثلاثة صفوف فقط.

ولأن القرية منحوتة في الجبل فإنها تظهر على شكل مدرجات ترتفع بارتفاع الجبل.

ورغم اندثار البيوت وتساقط الكثير منها إلا أن أبوابها ما زالت تقاوم الاندثار، وما زالت مغلقة وكأنها تدعونا إلى الولوج إليها واستقراء تاريخها العريق.

والقرية بهذا المعنى ليست كتلا طينية معلقة في خاصرة الجبل فقط ولكنها واحة غناء فيها كل أنواع المزروعات والخضروات والفواكه. فعرائش العنب ما زالت منتشرة في القرية من بدايتها إلى نهايتها وكانت مشتهرة بزراعته إضافة إلى أنواع النخيل المختلفة. كما تكثر زراعة النارنج والجوافة «الزيتون» وفق المسمى المحلي والسفرجل والموصلي «نوع من أنواع السفرجل» و«الشخاخ» وهو مسمى لثمر الشاموم، كما يزرع الأهالي مختلف أنواع الخضار والقمح والبر. والقرية بهذا المعنى كانت مكتفية ذاتيا تقريبا «يأتيها رزقها من كل مكان بإذن ربها». ومن بين أبرز أنواع الفواكه في القرية فاكهة المانجو قبل أن يبدأ في الاندثار هو الآخر. وأشجار المانجو كثيرة جدا في القرية، وهي معمرة وبعضها موجودة من أكثر من مائة سنة وجذوعها عظيمة جدا وثمارها وفيرة.

القرية مهجورة اليوم تماما ولم يبق بها إلا بيت واحد أو اثنان.. والمتأمل في القرية بمنظور استثماري يرى أنها تشكل مشروعا سياحيا مغريا فيما لو أعيد ترميمها وحولت بيوتها إلى نزل تراثية ومقاهٍ. وللقارئ أن يتخيل قرية معلقة في خاصرة جبل مطلة على واد مياهه رقراقة ومطلة على غابة من النخيل والأشجار. كما أن للقارئ أن يتخيل منظر القرية لحظة الغروب أو منظرها لحظة احتساء فنجان قهوة من شرفة مطلة على الوادي وكل الشرف مطلة عليه. أو يتخيل المبيت ليلة فيها حيث السماء صافية يستطيع بها تتبع حركة النجوم وانتقالها من منزلة إلى أخرى.