548574
548574
ولايات

كمزار .. شاهدة على تحولات الخليج وتغيراته

05 فبراير 2021
05 فبراير 2021

ناظرت التجار وأجادت حوار الحضارات ونحتت لغتها الخاصة -

تصوير: على حربي -

وأحمد خليفة الشحي -

«عمان»: من هنا عبرَ التجار وصارعوا الأمواج قبل أن تمخر صواريهم عباب المحيط وينثروا رائحتهم في كل مكان. من هنا من بين هذه الصخور النابتة فوق الماء مرت الحضارة الإسلامية لتنشر هديها في كل بقاع العالم. وكانت قرية «كمزار» المستكينة بهدوء أسفل هذه الجبال شاهدة على التحولات التي حدثت في المنطقة، مصيخة السمع لكل الأفكار الذاهبة والقادمة. فبعد سفن التجارة وصيد اللؤلؤ وصوت النهام الذي يدوي صداه فوق رؤوس الجبال تحول المشهد ليكون غابة من ناقلات النفط، وكان للمشهد أن تحول وللأفكار أن تبدلت لكن بقيت القرية ثابتة في مكانها يحاصرها البحر والجبل وتفوح منها رائحة الحضارة التي استطاعت أن تستفيد من الجميع وتتأثر وتؤثر في الجميع.

مرّ البوكيرك القائد البرتغالي إلى جوارها فأغراه جمالها، وناظرها الفرس من الضفة الأخرى لهرمز مستذكرين أنها كانت لصيقتهم قبل أن تنفصل الصفائح الجيولوجية قبل ملايين السنين وقبل أن يتشكل مضيق هرمز بوابة الخليج وممر اقتصاد العالم. مرّها الجميع وشربوا من مائها العذب قبل أن يختفوا في البحر وينتشروا في بقاع بعيدة.

وإذا كانت «كمزار» التي أصاخت السمع لكل الحضارات التي مرت بالقرب منها قد شهدت التحولات الكبيرة فإنها أيضا شهدت تحولات عظيمة في المجال الجيولوجي؛ فكان البحر ينحت فيها لوحته الرائعة، وكان الماء الهابط من قمم رؤوس الجبال/ أو من السماء ينحت في الاتجاه الآخر فكانت القرية وكان الجمال رديفها.. وهي بلغة الفنانين التشكيليين الحالمين وكأنها قرية خرجت من البحر وآخذت في الصعود إلى الجبل، وما زال جزء منها في البحر وجزء آخر متمسك بقمم الجبال.

وفي كتابه «معجم البلدان» يقول ياقوت الحموي متحدثا عن قرية كمزار: «بليدة صغيرة من نواحي عمان على ساحل بحره في وادٍ بين جبلين شربهم من أعين عذبة جارية». وورد ذكر القرية في كتاب «مروج الذهب» للمسعودي وفسر معنى اسمها حين قال إنه اسم مركب من «كم» و «زار» بمعنى كم زار هذه القرية من بشر؟ في دلالة لعدد الذين يزورونها من التجار وممن يعبرون البحر دخولا للخليج وخروجا منه.

ويبدو أن القرية أغرت المكتشفين والرحالة للوقوف فيها وتأملها. فنجد أن الرحالة الألماني هيرمان بورخارت الذي عاش في القرن التاسع عشر يصف قرية كمزار في كتاب «رحلة عبر الخليج العربي»: «إنها ضمن جون، أي خليج صغير، عريض محاط بجبال عالية، الأبنية هناك واطئة ومشيدة بالحجارة وأهم الأبنية مسجدان مجللان بالبياض».

ومساحة القرية صغيرة جدا ويقطنها الآن حوالي 3 آلاف شخص ونصف. وهي لا تستوعب أكثر من هذا العدد، فلا مجال للتوسع الأفقي فيها.حيث إن القرية جيب ساحلي ضيق جدا يشرف على المضيق ويسكن الناس في بيوت متقابلة على ضفتي واد هابط من قمم الجبال في رأس مسندم.

والمدهش أن المنفذ الوحيد لهذه القرية الجميلة البحر، فلا مجال لدخولها إلا عبره. فهي القرية التي تتكئ على الجبل وتحضن البحر حضنا سرمديا لا ينتهي. ولذلك فإن القرية لديها تنوع حضاري لأنها مفتوحة على البحر وقادرة على قراءة لغته وتفاصيل ثقافته العابرة للمحيطات.

ورغم كل هذه التضاريس الصعبة والتفاصيل الجيولوجية المعقدة إلا أن يد النهضة المباركة امتدت إلى القرية وربطتها بالعالم عبر تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، ويجد الزائر فيها مدرستين للتعليم الأساسي ومركز صحي ومركز للشرطة ومكاتب للبلدية وخدمات الحياة اليومية الأساسية كالكهرباء والمياه وجميع الاتصالات.

وهناك مشروع حكومي تم التخطيط له في منطقة «خوير» بالقرية يتضمن مخططا لأراض جديدة ولكن على سطح الجبل ويتضمن المخطط مدرسة ومستشفى وطريقا معبّدا.

ويتكلم أهالي «كمزار» إضافة إلى العربية اللغة «الكمزارية»، وهي لغة منحوتة من بين عدة لغات. رغم ذلك فلا يصنفها علماء اللغات إلى فصيلة اللغات السامية. وربما هي اللغة الوحيدة المحكية في المنطقة التي لا تنتمي للغات السامية. وساعدت عزلة القرية بين الجبل والبحر للحفاظ على اللغة عبر السنوات رغم اختلاطهم بالعابرين دخولا وخروجا للخليج. ويسخدم الكمازرة لغتهم هذه في تفاصيل حياتهم اليومية معتبرين أنها جزء منهم. وسبق للباحث الفرنسي «مكسيم تابت» أن تحدث لجريدة عمان عن دراسته لهذه اللغة التي اهتم بها معهد اللغات والحضارات الشرقية «إنالكو» في باريس.

مشيرا في ذلك الحوار إلى أن اللغة الكمزارية لغة عمانية تكتب بالحروف العربية وتتكون من 27 حرفا ساكنا إضافة إلى 8 أحرف علة. وهناك لهجة كمزارية تنطق في جزيرة «آراك الإيرانية» ولكنها تختلف، حسب الباحث الفرنسي، عن الكمزارية العمانية.

وباعتبارها جزءا من التكوين الجيولوجي المعقد وتركيبة صخرية متميزة بسواحل مشرشرة تتمتع كمزار كغيرها من الجيوب الساحلية القابعة على طول شبه جزيرة مسندم بمقومات جذب سياحية تزدهر في فترات الشتاء ( ديسمبر وحتى أبريل) فإضافة لجوها الجميل وهوائها العليل تزخر كغيرها من المناطق البحرية بالدلافين التي ترافق السفن السياحية والتي تعد من أهم عوامل الجذب في الرحلات البحرية السياحية ناهيك عن الأخوار الفريدة الموجودة في المنطقة والتي تعد من أهم عوامل الجذب السياحي البيئي نظرا لنقاء هواء المنطقة ونظافة شواطئها برمالها الذهبية التي تجذب المخيمين إلى هذه المناطق.

وتبقى كمزار قرية الحضارات المتنوعة وبوابة الخليج وحارسة الحكايات والشاهد الذي رأى كل التحولات التي حصلت في الخليج العربي وسمعت كل تفاصيل ما دار على الضفة الأخرى.