283699_OMN_05-02-2021_p10-p11-1
283699_OMN_05-02-2021_p10-p11-1
الملف السياسي

انقلاب ميانمار - ماذا بعد ؟

04 فبراير 2021
04 فبراير 2021

سيباستيان سترانجيو -

ترجمة: أحمد شافعي -

في الأول من فبراير الجاري، كان من المقرَّر أن يقوم أعضاء برلمان ميانمار المنتخبون حديثا بأداء القسم لبدء دورة انتخابية تستمر 5 سنوات. لكن في ساعات الفجر السابقة على ذلك الحدث، استولى جيش ميانمار على السلطة في انقلاب عسكري. سارع الجيش باعتقال مستشارة الدولة أونج سان سو كي صاحبة أرفع منصب في البلد، فضلا عن الرئيس وين مينت وعدد مجهول من نواب حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» الحاكم وآخرين من منتقدي الجيش. كما اعتقل الجيش أيضا عددا من مسؤولي الحزب الحاكم والنشطاء من شتى أرجاء البلد وأوقف مؤقتا اتصالات الإنترنت والهاتف المحمول.

في ظل فراغ الاتصالات هذا، بثَّ الجيش بيانا فرض به حالة طوارئ لمدة عام ونصَّب بموجبه الجنرال السابق مينت سوي ـ نائب الرئيس والرئيس السابق لقيادة يانجون العسكرية ـ قائما بأعمال الرئيس. كما أعلن الجيش أيضا أن مينت سوي نقل السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى قائد الأركان الجنرال مين أونج هلينج طوال فترة فرض حالة الطوارئ.

جاء هذا الانقلاب ـ الأول من نوعه في ميانمار منذ 1988 ـ بعد أيام من تداول شائعات وتقارير إخبارية عن تحرك عسكري وشيك. وشأن الانقلابات السابقة في البلد، كان مبرر هذا الانقلاب هو الديمقراطية: فدستور ميانمار يسمح للجيش بالاستيلاء على السلطة للحيلولة دون أي وضع «قد يتسبب في تفكيك الاتحاد أو الإخلال بالتضامن الوطني أو فقدان السيادة». وفي هذه الحالة، زعم الجيش أنه بحاجة إلى التحقيق في مزاعم بتزوير الانتخابات التي شهدها البلد في الثامن من نوفمبر، وحقق فيها حزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية التابع لأونج سان سو كاي فوزا كاسحا على الحزب التابع انتخابيا للجيش وهو حزب التضامن والتنمية.

في بيان ما بعد الانقلاب الذي انطوى على أكثر من تشابه عابر مع مزاعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بانتهاكات في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الثالث من نوفمبر، أكد جيش ميانمار أن «تزويرا رهيبا وقع في قائمة الناخبين خلال الانتخابات الديمقراطية العامة الجارية بما يتعارض مع ضمان استقرار الديمقراطية». فضلا عن أن «هذه المشكلة» ـ حسب ما أضاف الجيش ـ «إذا لم تحل، سوف تعيق طريق الديمقراطية. وفي ما يبدو أنه استباق لنتائج «التحقيق» المعتزم، أعلن الجيش عن إجراء انتخابات جديدة بعد سنة وأنه سوف يتنازل عن السلطة للحزب الفائز فيها.

لكن التزوير الانتخابي لم يكن هو الذي أعاق طريق ميانمار إلى الديمقراطية. وإنما هي عملية إصلاح سياسي جزئية ـ ومتعثرة ـ سمحت بتفاقم توترات عسكرية-مدنية قديمة. كان قادة البلاد العسكريون أنفسهم قد بدأوا تلك الإصلاحات بعد انتخابات وطنية أجريت في أواخر عام 2000 ووصلت من خلالها إلى السلطة حكومة شبه مدنية فتحت المجال السياسي في البلد وأقامت جسورا مع الولايات المتحدة وحكومات غربية أخرى. ولكن الجنرالات سعوا إلى الحفاظ على مزاياهم فاحتفظوا لأنفسهم بحق النقض (الفيتو) في ما يتعلق بالشؤون الدستورية. هدد النصر الساحق الذي حققته الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية في انتخابات نوفمبر توازن القوى الهش القائم في البلد. ويبدو أن العسكر بدلا من أن ينتظروا ليروا تآكل سلطتهم، قرروا إيقاف التجربة الديمقراطية واسترداد الحكم للعسكر.

فجر كاذب

يسلط هذا الانقلاب الضوء على نواقص حركة الإصلاح التي بدأها جنرالات ميانمار الحاكمون بعد انتخابات 2010 ـ فكانت في البداية سريعة حماسية ثم معاقة ثم جزئية. في غضون شهور ابتداء من منتصف 2011 أطلقت الحكومة سراح مئات المعارضين، ورفعت الرقابة عن الصحف، وسمحت لأونج سان سو كي باستئناف ممارسة السياسة بعد سنين من الإقامة المنزلية الجبرية، وأجرت محادثات مفتوحة مع أكثر من دزينة من جماعات المتمردين. وبلغت هذه العملية الإصلاحية إيقاعا سريعا للغاية حين فاز حزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية التابع لأونج سان سيو كي بنصر انتخابي ساحق في نوفمبر 2015 مستوليا على القيادة والحكومة في مطلع 2016.

لكن سردية التحول إلى الديمقراطية في ميانمار لم تضاه يوما الواقع على الأرض. ففي حين رأى كثير من المراقبين الغربيين أمة تثب إلى الجانب الصحيح من التاريخ، لم يزل قادة ميانمار يصارعون عواقب أكثر من قرن من الحكم الاستعماري البريطاني وستة عقود تالية من الحرب الأهلية والدكتاتورية العسكرية. ومن هذه العواقب الانقسامات العرقية والدينية القديمة التي ظهرت أشد تجلياتها مأساوية في هجوم الجيش الضاري على أقلية روهينجا المسلمة، وصراع السلطة الدائم بين الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية والجيش. والصراع الأخير يرجع إلى المظاهرات الحاشدة في عام 1988 التي قمعها الجيش بالقوة الغاشمة. كانت أونج سان سو كي قد ظهرت في تلك المظاهرات زعيمة سياسية مرموقة، وتنبع شعبيتها المستمرة من معارضتها الشرسة لحكم العسكر منذ ذلك الحين.

لقد عمدت الإصلاحات التي استهلت في عام 2011 إلى تحاشي التوترات القديمة بين رابطة الوطنية من أجل الديمقراطية والجيش. وقد حدد دستور البلد في عام 2008 معايير «الانتقال الديمقراطي» في ميانمار (بحسب ما سارع إلى تسميته كثير من المتابعين الغربيين) وهذا الدستور كتب بوضوح بحيث يضمن للجيش سلطته وامتيازاته. وضع المجلس العسكري مسودة الدستور وتم إقراره عبر استفتاء وطني معيب في مايو من ذلك العام، وضمن الدستور السيطرة العسكرية على ثلاث وزارات مهمة وعلى ربع مقاعد البرلمان ـ وهو ما يمثل عمليا حقا لنقض أي تعديل للدستور. كما احتوى الدستور على مادة تمنع أونج سان سو كي من تولي الرئاسة بناء على زواجها ذات يوم من أجنبي. فاحتوت هذه المواد الدستورية جوهريا الصراع القديم بين الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية والجيش في المعمار الدستوري للبلد.

ولا عجب أن الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية سعت إلى الدفع بأجندة الإصلاح الدستوري بعد فوزها الانتخابي التاريخي في 2015. وبلغت هذه الجهود ذروتها في مطلع العام الماضي، حينما اقترحت الحكومة التي تقودها الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية مجموعة تعديلات دستورية هدفها الحد من سلطات الجيش وامتيازاته أو إلغاؤها. وقد رفض البرلمان تلك التعديلات المقترحة بعد أن استعمل الجيش حق النقض الذي سعت الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية إلى إلغائه.

ثم فازت الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية في نوفمبر بانتصار محقق في الانتخابات العامة، ويبدو أن ذلك قد زعزع ثقة الجيش في قدرته على منع الإصلاح الدستوري. اكتسحت أونج سان سو كي والرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية 83% من المقاعد البرلمانية. في المقابل، لم يتمكن حزب التضامن والتنمية المدعوم عسكريا إلا من الفوز بسبعة في المائة. وفي شتى أنحاء البلد فقد مرشحو حزب التضامن والتنمية ـ وهم في الغالب عسكريون سابقون ـ مقاعدهم، بل إن الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية توغلت إلى مناطق كانت تعد من قبل معاقل لحزب التضامن والتنمية. ومع ذلك ليس من الواضح ـ في ضوء الضمانات الدستورية القوية ـ هل كانت الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية لتتمكن من تهديد صلاحيات الجيش أو تسعى أصلا إلى ذلك. طالما كانت لقائد الجيش مين آونج هليند ـ الحاكم الفعلي للبلد ـ مطامح رئاسية، وكان من المنتظر أن يصل إلى التقاعد الإلزامي في يوليو حين يبلغ الخامسة والستين. ويحتمل أنه كان ليبحث عن طريق غير قانوني للوصول إلى السلطة بغض النظر عن نتيجة انتخابات نوفمبر. ومثلما قال دبلوماسي أجنبي لرويترز ـ بشرط عدم الإفصاح عن هويته ـ فإنه «لم تكن أمامه طرق للوصول إلى دور قيادي في الحكومة من خلال السبل الدستورية». ومفهوم أيضا أن الجيش كان قد استثمر الكثير في مزاعم التزوير الانتخابية فبات يشعر بصعوبة التراجع عن مزاعمه دون أن يفقد ماء وجهه. مهما يكن الحال، يبدو أن نصر الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية الكاسح وهزيمة حزب التضامن والتنمية قد وصلا بالتوترات القديمة بين الجيش والرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية إلى نقطة الصدام.

يمثل استيلاء الجيش على السلطة في ميانمار مأزقا لإدارة رئيس الولايات المتحدة جو بايدن. فمن ناحية، يستوجب هجوم الجنرالات على العملية الديمقراطية في البلد ردا قويا من واشنطن. (وقد أصدرت بالفعل المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي بيانا دعت فيه «الجيش وجميع الأطراف الأخرى إلى الالتزام بالأعراف الديمقراطية وسيادة القانون، والإفراج اليوم عن المعتقلين» ومهددة بـ«تحرك» ضد كل من يعيق الانتقال الديمقراطي في ميانمار). في المقابل، سوف تسعى الحكومة الصينية إلى استثمار التوتر بين ميانمار والغرب الديمقراطي دافعة بحجتها المعهودة التي تذهب إلى أن ما جرى أخيرا في يانجون إنما هو «شأن داخلي» (وهي الحجة التي تبنتها بالفعل دول كثيرة من أعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا).

علاوة على ذلك، يشير التاريخ إلى أن المزيد من العقوبات الغربية على قادة الانقلاب قد لا تقنعهم بتغيير مسارهم. فقد وضعت وزارة الخزانة الأمريكية مين أونج هلينج بالفعل على «قائمة المواطنين المعينين» في 2019 بسبب دوره في التطهير العرقي لمسلمي الروهينجا. فليس لديه الكثير مما يمكن أن يخسره من جراء عقوبات إضافية وهو على الأرجح يراهن على أن القوى الغربية سوف تحجم عن فرض عقوبات قوية خشية أن يؤدي ذلك إلى تقريب بلده من الصين. وفي كل الحالات، فإن لقادة ميانمار العسكريين سجلا طويلا من الصبر على العقوبات الاقتصادية والحظر التجاري مهما أدت تلك الإجراءات إلى إفقار شعب بلدهم.

مهما يكن ما سيحدث في الأسابيع والشهور القادمة، يبدو أن مشكلات ميانمار لا بد أن تتفاقم وتتضاعف. ومثلما قال المؤرخ الميانماري ثانت مينت أوه بعد الانقلاب، فإن البلد يواجه بالفعل تراجعا اقتصاديا حادا من جراء كوفيد 19، واستشراء الفقر، والصراعات بين عشرات الجماعات المسلحة. وكان آخر ما ينقص البلد هو أن يواجه أزمة سياسية جديدة. كتب المؤرخ على تويتر يقول إن «الأبواب انفتحت على مستقبل شديد الاختلاف. ولديّ إحساس طاغ بأنه لا يوجد من يستطيع السيطرة على ما هو آت».

 

كاتب التقرير هو محرر جنوب شرق آسيا في مجلة «The Diplomat» ومؤلف كتاب «In the Dragon’s Shadow: Southeast Asia in the Chinese Century».