أفكار وآراء

خدمات من أجل التصدير

31 يناير 2021
31 يناير 2021

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي -

في علم الاقتصاد يمكن تعريف «الخدمات» على أنها نشاط اقتصادي يقدم من أجل الإنتاج، أو هي سلعة غير منظورة تقدم لإنتاج سلع منظورة لا يمكن إنتاجها بغير تلك الخدمة، أو هي خدمة تطلب لذاتها. و من أبرز الخدمات وأهمها في الوقت الحاضر، الخدمات المالية والاتصالات والتأمين والسياحة والتعليم.

يلعب قطاع الخدمات دورا هاما في الاقتصادات الحديثة، وتشير الإحصاءات الصادرة عن بعض المنظمات الدولية إلى أنه رغم التراجع البسيط الذي حدث في عام 2020 بسبب جائحة كورونا فإن حجم الصادرات من الخدمات في مجموع التجارة الدولية يزداد بصورة مطردة، ففي عام 2019 بلغ مجموع الصادرات السلعية حول العالم ما قيمته 19 تريليون دولار، بينما بلغ مجموع صادرات الخدمات حوالي 6.1 تريليون دولار، مشكلة بذلك ما نسبته 25% من المجموع الكلي للصادرات وحوالي 7% من الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم، وقد زادت نسبة الصادرات من الخدمات في بعض الدول عن 10% من ناتجها المحلي الإجمالي، بل إنه في دول، مثل لوكسمبورج ومالطا، زادت تلك النسبة على 70% من الناتج المحلي فيها.

ومما يتميز به قطاع الخدمات أن فيه أنشطة ومنتجات لا تحتاج إلى رأس مال نقدي أو عيني كبير، بل تحتاج إلى معرفة وخبرة ورأس مال بشري، ومثال ذلك خدمات الاستشارات وخدمات التصميم وكذلك الخدمات الإلكترونية، التي من بينها تطبيقات ومواقع البيع وخدمات الترويج على الشبكة الإلكترونية العالمية. والخدمات مثل كثير من السلع، يمكن إيجاد طلب عليها لاستهلاكها، وذلك على أساس القاعدة الاقتصادية التي تقول: إن «العرض يخلق الطلب»، وهي القاعدة المعروفة «بقانون ساي Say’s Law».

ولعمان أكثر من تجربة ناجحة في مجال تقديم بعض الخدمات، كما أن لديها رأس المال البشري والكوادر الوطنية التي تؤهلها للبناء على ذلك النجاح لخلق الفرص المناسبة من أجل أن تكون رائدة في المنطقة في مجال تقديم وتصدير الخدمات ذات الجودة العالية. ومن التجارب الناجحة في مجال «تصدير الخدمات» ما قامت به بعض الكليات الجامعية في السلطنة حين قدمت برامج متميزة في بعض التخصصات استقطبت إليها عددا من الطلبة غير العمانيين، وهو ما مكّن تلك الكليات من زيادة إيراداتها كما أوجد فرصًا مفيدة لبعض القطاعات والأنشطة الاقتصادية حولها، مثل العقار وتجارة التجزئة وخدمات النقل، وذلك بفضل وجود عدد لا بأس به من الطلبة الأجانب الذين يقطنون حول تلك الكليات. كذلك الحال في برنامج «التعليم عن بُعد» الذي تشرف عليه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ويستقطب عددا من الطلبة من خارج السلطنة، وهو إلى جانب مردوده المالي له فوائد أخرى ثقافية وعلمية. وإلى جانب النجاح في تصدير خدمات قطاع التعليم، هناك خدمات أخرى بدأ الصندوق العماني للتكنولوجيا في تطويرها مع رواد أعمال عمانيين وأخذت تشق طريقها من المحلية إلى الإقليمية وهي في سبيلها إلى العالمية. ومن المعلوم أن قطاع التعليم هو من القطاعات كثيفة العمل labour intensive، أي إنه يحتاج إلى أعداد كبيرة من العاملين، سواء في الجانب التعليمي والأكاديمي أو في الجانب الإداري، الأمر الذي يعني إيجاد عدد من فرص العمل في كل مؤسسة تعليمية واستقطاب مزيد من أصحاب المؤهلات العليا إليه من داخل السلطنة وخارجها. إن تجربة التعليم الجامعي هذه يجب البناء عليها لاستقطاب مزيد من الطلبة من الخارج وذلك عن طريق تحسين مستواه، الأمر الذي يستدعي قيام هيئة الاعتماد الأكاديمي بدور أكبر في ضبط جودة التعليم، لا سيما في مؤسسات التعليم العالي الخاصة وحثها على تقديم برامج مميزة بمستويات جودة عالية، وذلك لجعل عمان قِبلة يؤمها الطلبة من كل مكان، وكذلك قيام الجهات المعنية بالهجرة والإقامة بتسهيل إجراءات استقدام الطلبة الأجانب، وذلك حتى يكون قطاع الخدمات التعليمية في السلطنة موردا هامًا من موارد الاقتصاد الوطني، كما هو في نيوزيلندا منذ سنوات عديدة، وكذلك في مالطا وجمهورية شمال قبرص في السنوات الأخيرة. وإلى جانب قطاع التعليم، فإن من الأنشطة الخِدْمية الأخرى التي يمكن تبنيها أو تشجيعها في السلطنة، خدمة التصميم المعماري والصناعي، حيث إن سوق هذه الخدمة حول العالم واسعة جدا، وهناك الكثير من الكفاءات الوطنية التي تبحث عن عمل ولا يستوعبها السوق المحلي في وقت ترسل فيه بعض المكاتب الهندسية جزأ من أعملها لإكمال تصميمها في الخارج. ومثال آخر على تلك الخدمات، خدمة التحكيم التجاري وهي خدمة ذات مردود عالٍ وتستوعب عددا كبيرًا من الكفاءات العاملة في المجال القانوني والقضائي، ويمكن تقديم هذه الخدمة للمستثمرين والشركات في المنطقة والترويج لها بالاستفادة من «مركز عمان للتحكيم التجاري» الذي أنشأته السلطنة مؤخرا، وكذلك البناء على نظام «التوفيق والمصالحة» الذي كان سائدا في عمان منذ قرون وجرى تحديثه قبل عدة سنوات. ومن الأمثلة الأخرى للخدمات التي لها أساس محلي يمكن البناء عليه، خدمات التعريب والترجمة بحيث يشمل هذا النشاط التعريب والترجمة من العربية وإليها ويبدأ باللغة الإنجليزية ثم يضيف إليها لغات أخرى بعد أن يجري إعداد كوادر عمانية فيها، ويمكن البناء في تصديرها كخدمة على مركز الترجمة الذي قررت دول مجلس التعاون إنشاءه في مسقط، وكذلك خدمة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وذلك في إطار كلية السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، التي يوجد مقرها في ولاية منح بمحافظة الداخلية التي يمكن أن تستحدث برنامجًا موازيًا لتعليم اللغة العربية عن بُعد، إلى غير ذلك من الخدمات التي يمكن تصديرها إلى الخارج.

لكن تصدير الخدمات إلى الأسواق العالمية يحتاج إلى جهود لا تقل عن الجهود التي يجب أن تبذل لتصدير السلع إلى الخارج، ولا بد من إيجاد الممكنات اللازمة لذلك مثل توفير البنى الأساسية التي قد تكون بإنشاء «واحات لتطوير الخدمات» على غرار «واحة المعرفة-مسقط»، أو بتشجيع الجامعات على إنشاء «حاضنات» لمبادرات الطلبة في تلك الأنشطة والخدمات، أو إطلاق منتديات أو منصات افتراضية يجري فيها تجميع المهتمين والمستثمرين ومساعدتهم للتنسيق فيما بينهم والتعريف بالخدمات التي يقدمونها، حتى تنطلق من المحلية إلى العالمية. ولا بد كذلك من تقديم التمويل اللازم لصغار المستثمرين فيها من خلال المؤسسات المعنية بالتمويل. وحيث إن كثيرًا من الخدمات مثلها مثل السلع تواجه عقبات للوصول إلى الأسواق الخارجية والمنافسة فيها، فإنه لا بد من عقد اتفاقيات ثنائية مع الدول الأخرى في إطار منظمة التجارة العالمية، التي تنظم التجارة في الخدمات كما في السلع. كما أنه من الضروري بذل جهود في مجال الترويج لعمان كمركز لإنتاج وتصدير الخدمات ولا بد أن يصاحب الترويج التجاري غطاء سياسي وجهد دبلوماسي من قبل الجهات المعنية بذلك، وأن لا يترك أمر الترويج للأفراد أو للقطاع الخاص وحده.

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية