أفكار وآراء

مركز للدراسات القانونية

31 يناير 2021
31 يناير 2021

خميس بن راشد العدوي -

مع انتقالي إلى وزارة العدل أواخر عام 2011م.. أوكل إليّ تأسيس «مركز الدراسات القانونية»، وكان مما تشتمل عليه رؤية المركز وأهدافه؛ الجمع في الدراسة بين الجوانب القانونية والدينية، فعملنا على وضع هيكلة المركز واختصاصاته بما يحقق هذا الهدف الأساس، وكان من التوجه حينذاك حل الإشكال؛ بين المنظومة القانونية التي يقوم عليها القضاء، والمنظومة الفقهية التي يسير عليها المجتمع، اللتين ليستا بالضرورة منسجمتين مع بعضهما بعض، لاسيما مع التحول الذي يشهده النظام القضائي في السلطنة في ظل ما تتمتع به من إرث عريق في القضاء، توجد للمركز رؤية واضحة لسد الفجوة بين القانون والفقه، وكانت المعالجة تنصب على ثلاثة محاور كبرى فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والقانون:

- معالجة الرؤية الفلسفية لكل من الدين والقانون.

- التتبع التشريعي والقضائي على طول تاريخ المجتمع العماني؛ ومدى التغيرات التي سيحدثها التطور القانوني في المجتمع.

- حل التعارض بين المواد القانونية والأحكام الفقهية.

إضافة إلى اهتمامات المركز المعتادة؛ منها: تقديم البحوث القانونية، ودراسة الأحكام القضائية، وبيان مدى تعارض القانونين واتفاقها مع النظام الأساسي للدولة.

كانت الآمال حينها عريضة، والهمة متوقدة، فقد كنت أقرأ ساعات طوالًا في المواد القانونية ومراجع علم القانون، وأدوات البنية المؤسسية والعلمية للمركز، حتى كوّنت لذلك مكتبة خاصة، ولكن هذا العمل تبدد كحلم استيقظ صاحبه على التغيرات الوزارية حينها، فلم تكن رغبة الإدارة الجديدة للوزارة إنشاء المركز.

واليوم.. مع هذه التغيّرات الكبرى في الدولة، بإصدار جديد للنظام الأساسي للدولة، وإعادة هيكلة النظام الإداري للدولة، والإجراءات المتواصلة في تحقيق فلسفة «عمان.. نهضة متجددة»، والرغبة في تحقيق نظام قضائي متمكن من حل المشكلات التي قد تحصل من التوسع في الانفتاح الخارجي؛ لاسيما الاقتصادي، أطرح موضوع إنشاء «مركز الدراسات القانونية» من جديد، والسلطنة اليوم هي أحوج من قبل إلى بناء نظام قانوني أمتن على أسس علمية وموضوعية.

لقد كان حكم السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله مرحلة التأسيس للدولة الحديثة، وها هي السلطنة الآن تدخل في ظل قيادة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -أعزّه الله- مرحلة المراجعات والتجديد، التي يؤكد خطابها على الأسس العلمية في إدارة الدولة؛ولذلك من المهم برأيي أن تقوم وزارة العدل والشئون القانونية بإعادة النظر في تبني فكرة المركز بالطريقة التي تناسب تطورات الوضع الراهن.

مجتمعنا العماني.. يواجه كغيره من المجتمعات الإنسانية مسألة العلاقة بين الدين والمنظومات الأخرى المشكّلة للمجتمع؛ مثل: الأخلاق والقانون والعلم والفلسفة والتكنولوجيا، وهذه قضايا عميقة في بنية الفكر، وهي كذلك واقعية؛ حيث إنها تؤثر على سير الاجتماع البشري وتفاعله. وهي قضايا ليست وليدة «عصر التنوير الغربي» كما يتصور بعضهم، بل منذ المدونات الأولى المكتشفة حضاريًا وجد بها معالجة لها بصورة أو أخرى؛ ولذلك بحثنا فيها ضروري، يجعلنا أكثر وعيًا بحقيقتنا الوجودية وفعلنا الاجتماعي، وبما أننا أمة عريقة في الحضارة؛ فنرجو ألا يكون نصيبنا من الحضارة المعاصرة مجرد صدى لما ينتجه غيرنا، بل علينا أن نسهم عمليًا في البناء الإنساني، وعلى أضعف الإيمان بأن ندرس قضايانا، فمما يقرره العلم أن لكل مجتمع تجربته التي ينبني عليها تفكير أشخاصه والعلاقات فيما بينهم، وكلما تباعدت الأمكنة واختلفت الثقافات كانت ألزم في بحث ما يرد إلينا واختباره وفق تجاربنا العلمية.

وعندما نتكلم عن قضية العلاقة بين الدين والقانون فهي فرع لقضية الدين والدولة؛ فالقانون هو إحدى ركائز الدولة، بل هو محورها الأول، ولذلك دائمًا ما يحضر في هذا الموقف قضية فصل الدين عن الدولة، التي أرى أنها أُمنية أكثر مما هي واقع عملي. وإذا كان لا يوجد فصل حقيقي بين الأصل وهو الدين والدولة، فمن باب أولى لا يوجد فصل بين الدين والقانون، ليس على مستوى التفاعل الاجتماعي فقط، وإنما أيضًا على مستوى العمق الفلسفي؛ الذي هو المحرك العملي للعلاقات الاجتماعية، ويكفي أن كثيرًا من فلاسفة القانون قد خرجوا من تحت قبة هيكل اللاهوت، وقد كان القضاء في عمان مرتبطًا بالفقه، فالقضاة هم خريجو الحلقة الفقهية.

إن دراسة العلاقة بين الدين والقانون لا تقوم على أساس «التلفيق» بينهما؛ فضلًا عن جعل أحدهما مرجعًا للآخر أو معيارًا له، فمن المعلوم أن الدين هو دوحة كبيرة من المنظومات المعرفية والاجتماعية، كما أن القانون هو مظلة تكاد تشمل كل الشأن الإنساني، ولا يزال ينظر في مجتمعاتنا المسلمة إلى أن الدين هو أصل للقانون، ويقصدون بالدين غالبًا المنظومة المعرفية المتولدة عنه؛ لذا يجري الحديث عندهم ليس عن أصل الدين، أو عن نصوصه التنزيلية المتفق عليها فقط، وإنما عن الآراء المعتمدة في المنظومة الفقهية، ولا مشادة في ذلك؛ طالما أنها ستتعرض للدراسة والتحليل، ولكن ما أقصده أن تقوم الدراسات على أساس علمي، وذلك بكون الدين والقانون قائمَين على أصلين إلهيين: الإيمان والأخلاق؛ لذلك فمن الناحية الفلسفية والموضوعية؛ فإن استلال الأحكام من أحدهما ليس فيه تعدٍ على حرمة الآخر، طالما أنه يحقق شروطه المنهجية، وعليه ينبغي للدراسات القانونية والفقهية أن تتجاوز التعارض الظاهري بينهما، ولا تقف عند حدود الآراء المنبثقة اجتماعيًا منهما، فلا الآراء الفقهية ينبغي أن تكون حاكمة على التقنين، ولا القانون ينبغي أن يكون نافيًا للأصل الديني.

لقد وُجِدَتْ منذ عقود رغبة في تقنين الفقه، بل قامت فعلًا محاولة جادة في ذلك، ومن أبرز المعاصرين المنادين بتقنين الفقه: الفقيه الأصولي «نسبة لأصول الفقه» مصطفى الزرقا، وقد نسج في ذلك على منوال أبيه أحمد الزرقا. والتقنين كذلك فكرة قديمة، حيث اقترح بعض الخلفاء أن يلزِموا القضاء بأقوال فقيه زمانه، أو مَن يتبنى مذهبه الفقهي، ولكنها محاولات لم تستمر، برفض الفقهاء إلزام الناس بأقوالهم؛ ولأن ذلك سيذهب بعيدًا عن مقاصد العدالة، التي هي شأن إنساني جامع، وليست فكرة ناجزة في آحاد من العقول؛ ولذلك.. ينبغي إعادة النظر في مسألة العلاقة بين الدين والقانون، ليس -كما قلت- على أساس التقنين الفقهي، وإنما بالدراسات المنهجية والفلسفية لمنزع كل منهما، وبناء القوانين على هذه النتائج، فقد أثبت التاريخ حتى الآن أنه لا يمكن تجاوز الدين، ومن هنا.. فإنه من الأولى إقامة الدراسات التي تحقق في العلاقة بين الدين والقانون، بدلًا من العيش في صراع الانحياز لطرف على حساب آخر، لاسيما في مجتمعاتنا المسلمة؛ التي يشكل الدين هُويتها الوجودية.

يقوم الدين على الإيمان، والقانون على الأخلاق، وكلاهما منبعهما الروح الإلهي، وهما لا يعملان خارج الجماعة، فهما ينظمان حياة البشر، الأول عبر الوحي، والثاني عبر النفس، فلا ينبغي أن يكون بينهما تضاد حقيقي، حيث إن الإيمان والأخلاق بأصلهما الإلهي الواحد هما متآصران، وجاءا ليهذبا النفس البشرية ذات النزعة الحيوانية، ويردعاها عن الفساد في الأرض، والقول بالنزعة الحيوانية في الإنسان ليس استنقاصًا من حقه، بل هي طبيعة في تكوينه، ارتقى به الروح الإلهي ليكون إنسانًا سويًا؛ يذكيه الإيمان وتسوسه الأخلاق.

وبما أن الاجتماع البشري تتقاسمه المصالح الكثيفة والمعقدة؛ فهذا يستدعي لِفَضِّ الخلافات والنزاعات المترتبة على هذا التشابك الاجتماعي؛ قوةَ القانون المستند إلى الأخلاق، وإلزامَ الدين المنبعث من الإيمان. وبما أن القانون يقوم على الصرامة في التطبيق، والدين يقوم على حساسية الضمير الموصول بالله، فإن إشادة الجسور بينهما عبر الدراسات العلمية الموضوعية يصبح ضرورة حياة وحتمية اجتماع، نأمل أن تتحقق بإقامة هذا المركز المأمول.