أفكار وآراء

مكاسب للعمل العربي المشترك من المصالحة الخليجية

30 يناير 2021
30 يناير 2021

د. عبدالعاطي محمد -

تفتح المصالحة الخليجية أبوابا كانت مغلقة للعمل العربي المشترك، من شأنها أن تعيد له الروح التي غابت عنه لسنوات، بما ينعكس في تحقيق الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي، وتعزيز الصلات بين الدول العربية وشعوبها، والتفاعل بنجاح مع المستجدات على الساحتين الإقليمية والدولية. وقد لا يلمس الرأي العام العربي تحولا سريعا من الجمود إلى الحركة على نطاق المنطقة العربية ككل، موازيا لما تحقق من إنجاز على الصعيد الخليجي، ولكن هذه المصالحة في حد ذاتها وفرت معطيات جديدة لا يمكن تجاهلها من شأنها أن تجعل الطريق ممهدا مجددا أمام العمل العربي المشترك في الأجل المنظور، خاصة إذا ما تواصل الالتزام بما تم الاتفاق عليه في قمة العلا.

بداية فإن تجارب التاريخ العربية تؤكد أن الخلافات وما يلازمها من خصومة هنا أو هناك، لا تستمر طويلا أو أنها قدر مكتوب، وإنما هي طارئة ومؤقتة، لأن ما يجمع أكبر مما يفرق مهما اشتدت الأزمات. ولعل ما حدث يعطي درسا لكل من يسارع بالاصطفاف إلى جانب النفخ في نيران الخلافات بأنه يقف في المكان الخاطئ تماما ولن يتمكن من تحقيق حساباته، ففي النهاية لا يصح إلا الصحيح وهو أن الأمة العربية بشعوبها وحكوماتها في خندق واحد هو التلاحم والتوافق، فالتحديات واحدة والمصير واحد بغض النظر عن الخصوصيات وتباين المصالح والقدرات. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لنا أن نتذكر الوضع العربي العام وقت حرب 1967، حيث كان منقسما على خلفية توجهات سياسية متعارضة ومتأثرا بتجربة وحدوية فاشلة، ومع ذلك وقف الجميع موقفا موحدا مشرفا في قمة الخرطوم لمعالجة آثار العدوان وتجاوز الهزيمة، وتعمق هذا التوجه في حرب 1973. وعندما عادت حالة الانقسام بسبب الخلاف حول زيارة السادات للقدس واتفاقية كامب ديفيد 1979، عادت اللحمة مجددا عام 1984 وتم طي صفحة الماضي. وتكررت الحالة على خلفية غزو العراق للكويت، ثم عادت الأمور إلى مجاريها. والقصد أن التوجه العام في مسار الوضع العربي هو توافر الروح والإرادة لتجاوز الانقسام والعودة للتلاحم والتوافق. ولا يخرج الخلاف الأخير التي استطاعت قمة العلا الخليجية وضع نهاية سعيدة له، عن كونه واحدا من تلك التجارب التي دائما ما كانت تؤرق الوضع العربي بوجه عام وتجعله في موقع الاختبار.

ومن المشروع أن يطلق الكثيرون الخيال للبحث عن الأسباب التي قادت إلى تحقيق المصالحة الخليجية، ما أكثر التحليلات التي ظهرت سريعا أو على عجل لتفسر لنا التحول الذي بدا مفاجئا، ولكنها جميعا تبقى اجتهادات إعلامية تعكس وجهات نظر من قرأوا الموقف على هواهم ووفق تمنياتهم الشخصية. ولكن ما لا يمكن تجاهله كحقيقة هو أن الدبلوماسية كانت هي فارس التوصل إلى حل، تماما مثلما كان الحال مع الأمثلة السابق ذكرها، وإن كان للحق يجب التوقف بمزيد من التقدير والإعجاب بمهارة من قاموا بهذه الآلية هذه المرة، ويحسب للبيت الخليجي قدرته الفائقة على إنجاح المهمة.

وإذا كان البيت الخليجي هو المستفيد المباشر من هذه المصالحة. فإن العمل العربي المشترك له نصيب من الاستفادة أيضا. وأول هذه المكاسب هو استعادة الاعتبار لدور المؤسسات ممثلة هذه المرة في تركيبة مجلس التعاون الخليجي الذي لا يزال يحتفظ بنجاحه على مدى سنوات طويلة منذ تأسيسه في 25 مايو 1981. وفى هذه الحالة يجري ضبط أي خلاف أو أي تشخيص لموقف ما ولكيفية تداوله، حيث هناك قواعد ثابتة نظمها المجلس (عبر نظامه الأساسي) لإدارة أي قضية مشتركة وتعهد الأعضاء الالتزام بها. وقد كان لهذه القواعد دور مهم في أن تمضى مسيرة المجلس في هدوء ودون تعكير للأجواء حتى لو كانت هناك تباينات في الرؤى بين الأعضاء. والمعنى هنا أنه في حالة ما إذا تعرض المجلس لأزمة، يتم التداول والحوار ومن ثم التوافق من خلال المجلس كمؤسسة، وليس من خارجها حيث تكون في هذه الحالة ضمن دائرة من الفراغ يجرى ملؤها بالرؤى الذاتية والتقديرات غير المحسوبة مما يبقى على الأزمة والأرجح يعمل على تعميقها لا المساعدة في حلها. وغالبا ما يشارك الإعلام غير الملتزم، في ملء هذا الفراغ بما يزيد الأمور احتقانا. وما يفيد العمل العربي المشترك من هذه الزاوية هو رد الاعتبار أيضا لمؤسساته وفي مقدمتها جامعة الدول العربية.

وثاني المكاسب أن الطريقة التي تم بها إخراج المصالحة الخليجية أكدت مجددا على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤون بعضها البعض الداخلية. ولو تأملنا عديد الأزمات التي أصيب بها الوضع العربي منذ مرحلة الاستقلال الوطني لوجدنا أنها وقعت بسبب عدم احترام الشؤون الداخلية لكل دولة، حدث هذا برغم ما نص عليه ميثاق الجامعة منذ 1945 بالتأكيد على سيادة كل دولة من الأعضاء. فالدول هي الأحق بتحديد مواقفها وسياساتها تجاه ما تراه مصلحتها الوطنية، طالما لا تقوم بعمل عدائي ضد الآخرين، وطالما لا تزال على تمسكها بالثوابت العربية التي ترسخت عبر مسيرة العمل العربي المشترك على مدى الزمن. وتحضرنا في هذا الجانب النجاح في تجاوز الجدل الذي ساد المنطقة العربية بخصوص إقامة علاقات مع إسرائيل (التطبيع)، حيث تم النظر لها خليجيا على أنها مسألة تتعلق بالسيادة الوطنية لكل دولة. وقد وصلت الرسالة إلى بقية الدول العربية بهذا المعنى فتم عربيا احترام المواقف واحتواء الجدل الذي صاحبها. وللحق لم يكن هذا التقليد قائما في الماضي وهو الآن أصبح عرفا عربيا، على الأقل من جانب الغالبية. ولنا أن نلاحظ مثلا مرور مسألة التطبيع بين السودان وإسرائيل مرور الكرام دون ضجة مما يدل على أن المسألة أضحت عرفا في السياسة العربية المعاصرة، بينما لم تكن كذلك في الماضي. ولا شك أنه بتجاوزها تم تجنيب العمل العربي المشترك مشكلة كان من الممكن أن تعود به إلى الوراء.

وثالث مكاسب الاستفادة للعمل العربي المشترك من المصالحة الخليجية هو الإفلات من فخ ما مكن تسميته «النزعة القومية»، ليس إشارة إلى ما ترمز إليه القومية في أدبياتنا العربية بأنها التجسيد السياسي للعروبة، وإنما إشارة إلى ما هو سائد الآن في بقاع مختلفة من العالم بخصوص صعود تيار التعصب لجماعة من الناس بينهم قواسم مشتركة، حيث ينظرون لأنفسهم على أنهم الأحق أو الأجدر بالسيطرة على مقاليد القوة دون غيرهم ممن يشاركونهم الانتماء للوطن. هذه النزعة سائدة في الوقت المعاصر في كبريات الدول الغربية التي تطرح نفسها قدوة لغيرها في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويعبر عنها اليمين المتطرف سياسيا كما وضح في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. وتنهج هذه النزعة منحى انعزاليا ليس في الداخل فقط وإنما على صعيد العلاقات مع الخارج. ومن المعروف أن الأدبيات العربية بخصوص ازدهار الفكرة القومية العربية تقف من هذه الرؤية الضيقة لمفهوم القومية موقف الرفض وتعتبرها تيارا مضادا للعروبة وترسيخ التوجه القومى العربي الصحيح. ولا شك أنه لو أطلق العنان للنزعة القومية الضيقة لازداد الانقسام على الساحة العربية أو لتفككت عرى التضامن واللحمة التي لا تزال تقوم عليها شرعية العمل العربي المشترك. ما حدث في قضية المصالحة الخليجية هو التصدي لهذه النزعة ومن ثم حماية العمل العربي المشترك.

ورابع المكاسب يتعلق بأن المصالحة أتاحت الأجواء لإمكانية فتح الملفات المعقدة عربيا التي تسببت في تعطيل العمل العربي المشترك، وذلك في اتجاه العمل على وضع حلول للأزمات المتعلقة بها. والإشارة هنا واجبة لملفات سوريا وليبيا والعراق واليمن. وليس خافيا أن استمرار هذه الأزمات مرتبط بغياب التوافق العربي على كيفية الحلول وليس فقط بسبب معطياتها الداخلية كل على حدة. والرسالة التي طرحتها المصالحة على منطقتها العربية هي أنه بالإمكان فعلا تجاوز أزمات صعبة وتسويتها دبلوماسيا، وهكذا مثلما نجحت الفكرة بخصوص ما كان قائما بين الرباعي العربي، يمكن أن يتكرر النجاح في ملفات أخرى.

للمنطقة العربية من محيطها إلى خليجها أن تبني على ما تحقق إعلاء لمصالح شعوبها وحكوماتها أيضا. ونعلم أن المسألة مرتبطة بحسن النيات، وأن المشكلات العربية معقدة، وأن المبالغة في التفاؤل لن تتفق مع مجريات الواقع. ومع ذلك فإن ما يعزز التأكيد أننا عربيا أمام مرحلة جديدة تبشر بالعمل الإيجابي المشترك وفق قواعد واقعية. وقد جاء التوقيت مناسبا للغاية بالنظر إلى متغيرين مهمين أولهما أن جائحة كورونا والبدء في مرحلة التعافي أمر يفرض الدفع بالعمل المشترك أكثر من أي وقت مضى. فالعودة إلى الحياة الطبيعة ولو في ظل قدر من القيود تحتم الانفتاح والتلاقي لا العزلة والانكفاء على الذات، لأن التعافي والعودة التدريجية للحياة الطبيعية تفرض التعاون المشترك في تحقيق هذا الهدف. وثانيهما أننا أمام إدارة أمريكية جديدة مختلفة تماما في سياساتها عن الإدارة السابقة، وهي تعرف ماذا تريد وكيف ستتصرف مع شؤون منطقتنا العربية، بينما يصعب القول إننا كعرب مجتمعين نعرف ما نريد منها وكيف نتصرف إزاء سياساتها سواء التقت مع مصالحنا العربية أم لم تلتق. وإذا كانت دول مجلس التعاون الخليجي قد سبقت هذين التحديين بتحقيق المصالحة، بما يؤشر إلى أنها استعدت جيدا للتعامل الصحيح مع كل منهم، فإن الرسالة يجب أن تصل سريعا لبقية المنطقة العربية، عنوانها التهدئة، والحوار والتوافق، والتعاون المشترك، هم أقصر الطرق لاحتواء الأزمات.