أفكار وآراء

ما الأثر الاقتصادي للإغلاقات الأخيرة؟

26 يناير 2021
26 يناير 2021

جوزيف ناي - نَاشونال إنْتَرست - ترجمة قاسم مكي -

قادت إغلاقات الربيع الماضي -التي غطت في ذروتها أكثر من نصف سكان العالم- إلى تراجع اقتصادي هائل؛ ففي أبريل انخفض الإنتاج الاقتصادي العالمي بحوالي 20% عن المستوى الذي يفترض أن يكون قد بلغه لولا حلول الجائحة.

ومع تصاعد حالات الإصابة بفيروس كورونا مرة أخرى، تفرض البلدان الغنية جولة جديدة من الإغلاقات؛ ففرنسا دخلت في عزلة في نوفمبر، وإيطاليا أغلقت نفسها خلال عيد الكرسميس، وانجلترا أعلنت إغلاقا وطنيا يوم 6 يناير. وفُرضت حالة الطوارئ في أجزاء من اليابان، أما في أمريكا حيث تُصدر السلطات الولائية والمحلية أساسا وليس الحكومة المركزية أوامرَ البقاء في البيت، فالوضع أكثر تعقيدا، لكن أحدَ المعايير التي تُقاس بها صرامة الإغلاق يوحي بأن القيود هناك متشددة تقريبا بذات القدر الذي كانت عليه في الربيع الفائت.

ستضرب الجولة الأخيرة للإغلاقات الاقتصادَ مرة أخرى. لكن ربما ليس بالقوة نفسها. وفي حالة بريطانيا، يرى المحللون ببنك جولدمان ساكس أن «حساسية النشاط الاقتصادي تجاه قيود كوفيد-19 خفَّت بقدر كبير منذ الإغلاق الأول».

وفي دراسة بحثية نشرت في 8 يناير، ذكر بنك آخر هو (إتش إس بي سي) أن الإنتاج الصناعي الألماني «مدَّد تعافيه إلى شهر نوفمبر ولم يتأثر بالإغلاق الجديد».

وأظهر تقرير الوظائف في أمريكا عن شهر ديسمبر الذي نشر في اليوم نفسه تدني التوظيف لأول مرة منذ شهر أبريل، إنها نتيجة تبعث على الاكتئاب عندما لا يزال هنالك الملايين من الناس بدون عمل.

لكن المؤشرات الاقتصادية الأخرى التي تتكرر بوتيرة سريعة مثل تلك المتعلقة بإنفاق المستهلكين أفضلُ حالا الآن قياسا بربيع العام الماضي.

سيَمُرُّ بعض الوقت قبل أن تؤكد الأرقام الرسمية للناتج المحلي الإجمالي المرونةَ المتنامية لاقتصادات العالم الغني تجاه الإغلاقات.

ثمة مؤشر آخر في ورقة صدرت مؤخرا استخدم فيها نيكولاس ولووشكو، الباحث بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بياناتٍ مستمدة من محرك البحث «جوجل» لتقدير الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات الكبيرة على أساس أسبوعي. حسب هذا التقدير، كانت هذه الاقتصادات في أبريل تعمل بحوالي 80% من طاقتها الإنتاجية، أما الآن فتزيد هذه النسبة عن 90%.

هنالك ثلاثة عوامل تفسر التحسن الذي طرأ على الإنتاجية؛ فخوف الناس من الجائحة أقل الآن مما في السابق وضبط السياسة الحكومية (معايرتها طبقا لمطلوبات الواقع) صار أفضل والشركات تكيَّفت مع أوضاع الجائحة.

لنتناول موضوع الخوف أولا.

في مارس وأبريل كان فيروس كورونا شيئا مجهولا، وتمثل رد فعل العديد من الناس في الاستِتار من الجائحة داخل بيوتهم، ويشير تحليل لاستطلاع آراء أجرته شركة «يوجوف» في أبريل إلى أن أكثر من 60% من الذين شملهم الاستطلاع في البلدان الغنية كانوا يشعرون بالقلق من التقاط الفيروس، لكن تحسُّن إدراك الناس لما يمكن أن يفعلوه من أجل تجنب الإصابة بالمرض وربما أيضا ضجرهم من الإغلاقات سَيَعنِي أنهم الآن أكثر استعدادا للعودة إلى حياتهم الطبيعية.

تراجعت نسبة الناس الذين يعبرون عن خشيتهم من الإصابة بكوفيد -19 إلى حوالى 50% في شهر نوفمبر، وتشير البيانات المستمدة من جوجل إلى أن الناس في العديد من البلدان يتحركون في الأماكن العامة بأكثر مما كانوا يفعلون عند بداية الجائحة.

زاد ذلك من قلق بعض الجهات المسؤولة عن الصحة العامة، جاء في تقرير أعده علماء في آنتاريو في ديسمبر أن «الإغلاق الحالي ليس له أثر يقارب أثره على حركة الناس (وتواصلهم) في شهر مارس.»

وتورد الصحف البريطانية والأمريكية عبارة «الحفلات الصاخبة غير القانونية» بمعدل يساوي خمسة أضعاف ذكرها لها في الربيع الماضي.

هذا التعاظم في استعداد الناس لمخالفة أوامر الحكومة، مهما كانت منافعه الاقتصادية، ربما يفاقم من انتشار الفيروس.

لكن العامل الثاني الذي يفسر مرونة الاقتصادات هذه المرة، وهو ضبط السياسة الحكومية، يشكل قدرا أقل من المقايضة (بين انتشار الفيروس وتعافي الاقتصاد).

توصَّل المسئولون إلى إجراءاتِ الإغلاق التي تترتب عليها أقل تكلفة اقتصادية؛ لذلك هنالك رغبة أقل الآن مثلا في إغلاق المدارس مقارنة بالربيع الماضي (عند بداية الجائحة). لكن زادت شهية إصدار توجيهات ارتداء أقنعة الوجه وفحص المسافرين القادمين من الخارج، ولا يشكل أي من هذين الإجراءين إزعاجا يذكر لأي أحد.

إلى ذلك، حذت بلدان عديدة حذو ألمانيا التي سُمح فيها للعديد من مواقع الإنشاءات بمواصلة العمل أثناء الموجة الأولى للجائحة، كما أبقت فرنسا على نشاط التصنيع. ولا يكاد تقلص الإنتاج بهذا القطاع في نوفمبر، بل زاد في ديسمبر.

أما السبب الثالث لمرونة الاقتصاد فيتعلق بتكيف الشركات مع ظروف الجائحة، لقد شكل التحول الفجائي إلى «العمل عن بُعد» صدمة للعديد من أولئك الذين اعتادوا على العمل في المكاتب وملازمة الحواسيب القديمة وليس أكثر من ذلك.

استثمرت الشركات منذ قدوم الجائحة في ما يجعلها أكثر إنتاجا حتى في ظل الإغلاقات. ففي الفترة من مارس إلى أكتوبر استوردت بريطانيا أجهزة «لابتوب» بقيمة 4.7 بليون جنيها استرلينيا (6 بليون دولارا) بزيادة 20% مقارنة بنفس الفترة في عام 2019م.

حللت ورقة حديثة أعدها الباحث نك بلوم من جامعة ستانفورد وزملاء آخرون طلبات تسجيل براءات الاختراع الأمريكية ووجدت أن الجائحة «حوَّلت وجهة الابتكار نحو تقنيات جديدة تعزز مؤتمرات الفيديو والعمل والتفاعل عن بُعد.»

وبذلت منشآت الأعمال التي تتعامل وجها لوجه (مباشرة) مع المستهلكين جهودا أعظم للتكيف مع أوضاع الجائحة. فأفضل أندية موسيقي الجاز في نيويورك تقدم الآن حفلات حية يتم بثُّها عبر الإنترنت مباشرة إلى غرف المعيشة.

وعندما كنت أنا -محرر هذا المقال- مقيما في مزرعة بشرق انجلترا اشتريت وجبة من مطعم الأغذية الهندية «جوجراتي راسوي» الذي يقع على مبعدة 93 ميلا في لندن، فمثله مثل العديد من المطاعم الأخرى، بدأ «جوجراتي راسوي» في تقديم خدمة التوصيل للمنازل على طول وعرض البلاد.

في بريطانيا، بحسب بيانات رسمية، لم تكن نسبة الشركات التي كانت تمارس عملها في نهاية العام الماضي أقل عن معدلها في الصيف عندما كانت القيود أقل تشددا إلى حد بعيد. تلك ليست هي الحال مع الشركات الصغيرة في أمريكا. غير أن نسبة أكبر منها تواصل نشاطها الآن مقارنة بالربيع الماضي.

هذه المرونة التي أبداها الاقتصاد في وجه أحدث موجة للإغلاقات لها عدة دلالات.

عندما بدأ الفيروس في الانتشار لأول مرة كانت الحكومات تنوي تجميد الاقتصاد، لكن مع مرور الوقت صار من الواضح أن النشاط الاقتصادي تكيَّف مع صدمة الجائحة. هذا يعني أن على الحكومات التقليل من إجراءات الدعم المالي، وهذا بالضبط ما تخطط له في العام الجديد (2021م). إلى ذلك، بما أن موارد أقل تُركت من غير استخدام في أثناء هذه الجولة الأخيرة من الإغلاقات من المفترض أن تخلِّف أضرارا أقل على الاقتصاد، ومن الممكن أن يسمح ذلك بتزايد الإنتاج بوتيرة سريعة عندما تُرفع القيود.

ويتوقع المحللون ببنك مورجان ستانلي عودة الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي إلى المسار الذي كان يمضي فيه قبل حلول الجائحة بنهاية هذا العام. هنالك الكثير الذي يمكن أن يُفسِد هذه التوقعات. لكن مهما حدث، سيبدو الاقتصاد الذي دخل في الجائحة مختلفا جدا عن ذلك الذي سيخرج منها.