am21
am21
أعمدة

الكتابة مهنة تابعة..

25 يناير 2021
25 يناير 2021

آمنة الربيع -

هكذا يعتقد المخرج الراحل حاتم علي، أن الكتابة مهنة تابعة! وجاء ذلك في سياق المهمة الشّاقة التي يضطلع بها المخرج، في أثناء رحلة قيامه بقراءة النص وتحضيره ليسهل تحويله إلى عمل فني يحظى بفرصة الولادة كالكائن الحي. ومن يتتبع مصطلح المخرج فهو مصطلح حديث نسبيا ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ١٨٧٣م؛ إذا ما جرت مقارنته بمصطلح الكاتب أو المؤلف الدرامي، الذي ينتمي إلى عصور ما قبل الميلاد (سوفكليس، أسخيلوس، يوربيديس) وفي العصر الحديث جرى الاتفاق على أن المخرج هو سيد العمل الفني في المسرح والسينما والتلفزيون. ومرّ هذا المصطلح بتطورات عديدة ومختلفة عبر العصور، ساعدت في تطوره التقنيات العلمية، وكورسات وورش التدريب والمختبرات المكثفة. وعلى ما في هذا الطرح من قبول واحترام إلا أنّ في الكواليس هناك قضايا ومسائل متباينة قد تتسم بالضجر؛ عندما يجري الحديث عن العلاقة المفترضة ما بين الصانع الأول للنص الدرامي أو الأدبي، وبين المخرجين ومع النقاد. فإذا سلمنا أن مهنة الكتابة هي مهنة تابعة، وأن "المخرج لص يسرق جهود الآخرين" بتعبير حاتم علي، فإنّ المعجم المسرحي يشير إلى جزئية تخصّ عملية الإخراج، فيرى أن غياب المخرج أمر مُمكن، لكن ذلك لا يعني بالضرورة غياب عملية الإخراج. يصير هذا الأمر في استثناءات محدودة جدا؛ كالإخراج الجماعي الذي يتولاه ممثلو الفرقة المسرحية بأنفسهم على الخشبة مباشرة، وفي فنون جماليات الأداء (الفنانة اليوغسلافية مارينا إبراموفيتش)، وفي مسرح ما بعد الدراما (تيس ليمان)، ومع عمل الدراماتورغ. وما يمكن أن يجمع بين هذه الاستثناءات يتمثل في إزاحة النص الأدبي والتضحية بعناصر الدراما التقليدية التي استنبطها المعلم أرسطو من الملاحم والتراجيديات الكبرى. إذًا، النصّ هو مثار الجدل الحاصل؛ سواء كان النص بمواصفات الدراما التقليدية، أو النصوص التي كتبها مؤلفون سعوا بواسطتها إلى تخطي الحدود التقليدية والإتيان بشكل تجريبي جديد. وهذا الشكل الجديد قد يجد بعض ضالته في إشارة سريعة أضعها هنا، وهو ما ذكره جاك دريدا لمفهوم النص ودَلالاته "فلم يعد جسدا من الكتابة أو شيئا من المضمون محشورا في كتاب أو في حدود، بل نسيجا مرجأ، تعود بشكل لامتناه أكثر من رجوعها إلى نفسها هي، إلى آثار مرجأة أخرى". ولا خلاف اليوم، أن مفهوم النص قد تطور بفعل النظريات الأدبية وحفريات نقاد ما بعد الحداثة، ولا خلاف اليوم كذلك على أن مكانة المخرج في العمل الفني مركزية. إلا أنني سأحصر الكلام هنا، حول المؤلف بوجه عام. ومع كامل التقدير لمقولة موت المؤلف (رولان بارت)، وموت الناقد (رونان ماكدونالد)، هناك رأي متوازن يناقشه (ميشال فوكو) في مقالته (ما معنى مؤلف؟) قائلا: "… فلا يكفي على كل حال أن نردد التأكيد الفارغ على أن المؤلف قد اختفى… وبدلا من ذلك، علينا أن نحدد موقع المساحة الفارغة التي تركها اختفاء المؤلف، ونتتبع توزيع الثغرات والتصدعات ونترقب الفتحات التي يعريها هذا الاختفاء". وانطلاقا من أن وظيفة المؤلف "هي رسم صيغة الوجود، والتداول، والقيام بوظائف خطابات معينة في مجتمع ما"؛ ظل للمؤلف مقولتان تُعينان على وجوده لا اختفاءه أو موته، هما: العمل والكتابة. يُجيد فوكو وضع الأسئلة وما يحيط بها من إشكالات حول هذه المقولة. فالمشكلة برأيه "نظرية وتكنيكية" إذّ كيف للمرء أن يحدد عملا ما يخص المؤلف وسط عناصر كثيرة، معلنا أن هذا هو "العمل"؟ سأجتهد لاستخراج هذا التعريف: "العمل هو مجموع العناصر التي دخلت في تكوين الكتاب؛ الأوراق، والملاحظات التي دوّنها المؤلف، والمسودات والمخطوطات والصفحات المشطوبة والملاحظات المسجلة على هامش ما وغيرها من العناصر. ولكن إلى أيّ حدّ هذا التعريف صحيحا في تعاملنا مع القراء، وما مدى أهميته بالنسبة للنقد؟ أما مقولة "الكتابة" التي تساند فكرة اختفاء المؤلف فيحررها فوكو من قيود السمات الإمبريقية القارّة لتعريف المؤلف، والتي بدورها تعيد تشكيل المؤلف المتعارف عليه في التصور ذاته. والتعيين الفوكوي لوجود المؤلف قضية شائكة تختص بسؤال المتكلم في اللغة. وعطفا على هذه العلاقة الملتبسة بين "المؤلف والعمل" يمكن الإشارة إلى المفهوم المتطور للنص والقارئ بجميع أنواعه. إزاء هذه الجزئية، يمكن أن يظهر لنا أن أنواع القراء هم أقرب إلى بعض أنواع المخرجين الباحثين الفاعلين؛ الذين يجدون ثراءً لا يقتصر على قراءة العمل الفني أو الأدبي فحسب؛ بل تكون مهمتهم ماثلة بالبحث عن المقولات الثانوية والمعطّلة للعمل الفني أو الأدبي وتحويلها فيما بعد إلى مقولات نابضة وحيوية، وهذا ما يفعله المخرج الفاعل الباحث مع الحواشي والمتون الصغيرة المختفية في الإرشادات المسرحية، أو في المعالجة الدرامية للسيناريو، حتى يتمكن من تقديم رؤية جمالية أو عابرة للجماليات ككل. وإذا كان من حق المخرج الذهاب بالنص إلى اتجاهات أخرى غير تلك الاتجاهات التي وضعها المؤلف في عمله، فإن هذه المنطقة القصوى لا تعني التضحية بالمقولات المركزية والجوهرية في متن النصّ. كان بحث المخرج عن -المنطقة القصوى للجمالي الممكن- مثار جدل بين المؤلفين والمخرجين من جهة، وبين المؤلفين والنقاد من جهة أخرى. ففي سياق العلاقة المتوترة بين المؤلف والمخرج يُلاحظ وجود ثلاث اتجاهات. يرى أصحاب الاتجاه الأول "الالتزام بنص الكاتب". يقول المؤلف الدرامي وليد سيف عن علاقة حاتم علي مع نصوصه "…وهو يدرك قيمة النص الأدبي بخلاف بعض المخرجين الذين يهمشون النص لصالح الاستعراض البصري المجاني وغرضهم في ذلك أن ينسبوا العمل للإخراج في المقام الأول"، بينما أصحاب الاتجاه الثاني فينطلقون من التعامل المطلق للمخرج مع النص. ويذهب أصحاب الاتجاه الثالث إلى فرض شكل العرض ضمن النص من خلال الإرشادات المسرحية. ويمكن الاستشهاد على هذه الاتجاهات بالعديد من الأمثلة من المحيط إلى الخليج. أما عن علاقة المؤلفين مع بعض المخرجين والنقاد والفلاسفة فهي لا تخلو كذلك من توتر وصدام. هكذا يُفجّر (جان جينيه) عاطفته الساخرة والظريفة بسخاء في وجه السائلة (مادلين غوبل) عن ردة فعله إزاء الكتاب الضخم الذي ألفه الفيلسوف سارتر عنه، علّق جينيه: "ردة فعلي الأولى كانت الرغبة في إحراق الكتاب لأن همّي الدائم هو أن أكون مسؤولا عن كل ما أثيره. إلا أن وقتا طويلا قد مرّ للتصالح، وكنت شبه عاجز عن الاستمرار في الكتابة". وعطفا على ذلك، نذكر الأديب تولستوي، الذي تأثرنا برواياته، ومن منّا لم تأسره نساءه الفريدات وعوالمهن العجيبة؟ فأديبنا جرّب الكتابة للمسرح، وأتحفنا بعشرة مسرحيات متباينة في مستواها الفني، صدر معظمها في مجلد بترجمة صباح الجهيم تجاوز ثمانمائة صفحة. الجزئية الطريفة أن تولستوي قرأ مسرحيته (أسرة موبوءة ١٨٦٣) على الكاتب المسرحي نيقولاي أوستروفسكي، فلم تعجبه وتأذت أذناه. صحيح أن رأيه ذلك لم يقله له مباشرة كما جاء في الكتاب إنّما كتبه في رسالة خاصة. كان أثر ذلك على الأديب تولستوي أن تحوّل لكتابة رواية الحرب والسلم، وكان على المشهد الثقافي المسرحي في روسيا أن ينتظر زهاء ثلاثة وعشرين عاما ليكتب تولستوي مسرحيته (المُقطّر الأول ١٨٨٦). ويبدو -على نحو من الأنحاء- أن مهمة المخرج أو الناقد ليست يسيرة، وهو يبحث في نص يتأرجح بين لغة الشعر وبين السرد، الغموض والوضوح، القبول والرفض، التقليد والتجريب، نصا قلقا مضطربا يمزج الخاص بالعام، والسهل بالصعب، والشدة بالاعتدال، والمقدس بالمدنس! فماذا يفعلان المخرج والقارئ إزاء نص أراد له مؤلفه أن يظهر بذلك الشكل! ليست الكتابة الأدبية مهنة مَن لا مهنة له. ليست ترفا أو تزجية للوقت، تبدو في البداية "كلذّة شخصية" بتعبير جينيه، لكنها كذلك وظيفة. إنها عملية فيها من العلم بقدر ما فيها من الأدب. "فهناك وحدة مميتة ومناطق مظلمة يعمل بها الفنان"، أشبه بالرقص على حبل رفيع معلق في الهواء في مسابقة بعالم السيرك. وبالرغم من الخطر الذي يُحدق باللاعب وهو على ذلك الحبل، إلا أن المخاطرة فيها من اللذة والمتعة يعرفها كاتبها.