أفكار وآراء

كَدم.. أقدم عاصمة لعمان

24 يناير 2021
24 يناير 2021

خميس بن راشد العدوي -

عمان.. أرض موغلة في القدم، بدأ الفعل الحضاري فيها منذ آلاف السنين، وفي الألفية الرابعة قبل الميلاد أخذت ملامحها تتشكل باتجاه تكوّن حضارة، اكتملت في الألفية الثالثة قبل الميلاد. وفي عصرنا نشطت التنقيبات الآثارية في السلطنة، وهي لا زالت في مهدها البكر، لكنها كافية لوضع تصور عام لهذه الحضارة، ورغم الاشتغال الكبير للباحثين بفهم المعطيات الحضارية لتلك الألفية؛ إلا أنها لم تتآصر وشائجها لتعلن عن هُويتها الجامعة، فضلاً عن عدم حملها اسماً يقرّ طبيعتها.

بالنسبة للهُوية.. فمعظم المكتشفات الآثارية عُرّفت بالفترات والثقافات المعتمدة آثارياً كفترة حفيت وثقافة سمد الشأن، وبعضها يُنسب لخارج النطاق العماني كحضارة وادي السند، ومع أهمية هذه المرجعيات معيارياً إلا أنها مقاطع لا تمثّل وحدة موضوعية. وأما التسمية.. فتُنسَّب بحضارة مجان، ومجان اسم ممتد زماناً ومكاناً للجغرافيا العمانية، كما أنه مستل من بعض الكتابات الحضارية غير العمانية، مما أوجد نزاعاً علمياً معتبراً حول تحديد موقع مجان؛ هل هي عمان الآن أم غيرها؟.

في إطار تحقيبي للتاريخ العماني.. حددت الطور الأول المؤسِس للمجتمع والدولة في عمان بالألفية الثالثة قبل الميلاد، وملاحظةً للاعتبارات السابقة؛ أطلقتُ عليه اسماً نابعاً من الأرض العمانية نفسها ومنتشراً فيها وهو «حضارة سلّوت»، فسلّوت.. بمشتقاته المختلفة؛ يُطلق على أماكن عديدة بعمان.

مع اهتمامي بهذه الحضارة منذ سنوات إلا أنني خصصتُ عام 2020م لدراستها؛ على أرض الواقع، ومن خلال البحوث الآثارية والمراجع الحضارية. وهنا لابد لي أن أذكر ابني عبدالرحيم بأنه ساعدي الأيمن في البحث على المستويين النظري والعملي. ولسعة النتائج التي حصلنا عليها؛ فإنني أرجئ الحديث عنها إلى وقت آخر، وأقتصر على كَدم. لقد اقترحتُ لبعض مؤسساتنا المعنية بالآثار بتشكيل ملف لهذه المدينة العريقة، يُغذى علمياً من واقع الاكتشافات والبحوث الآثارية، ثم يُقدم إلى اليونسكو بغية إدراجها ضمن قائمة التراث العالمي، وأرجو أن يدفع هذا المقال نحو العناية بالأمر، قبل أن يطوي الزمن المتسارع الآثار الباقية.

كَدم.. اسم جبل بداخلية عمان، وإليه ينسب أبوسعيد محمد بن سعيد الكدمي (ق:4هـ)، أحد العلماء الكبار؛ في الفقه وعلم الكلام والسياسة. وهو يطل على بعض قرى ولاية الحمراء. ولقد ذكر الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري (ت:1975م) كَدم قائلاً: (تقع شمالي بهلا إلى سفح الجبل الأخضر، تجمع عدة قرى؛ منها: بلاد سيت والحمراء والقرية والقلعة والعارض وذات خيل).

لقد تمكّنا بتتبع جغرافية المنطقة أن نكتشف سور كَدم لأول مرة، وهو يمتد حوالي 25كم، فيكون بذل كضعف سور بَهلا تقريباً البالغ حوالي 13كم، ولا تزال كثير من أساساته الحجرية باقية؛ لاسيما التي على الجبال. وهي بالفعل تضم البلدان التي ذكرها الشيخ إبراهيم العبري، إضافةً إليها: غمر والمحمود والضبانية والمركاض، مع مواقع آثارية متفرقة تشكّل «جزراً صخرية» في مجمع الأودية المنسابة من جبال الحمراء باتجاه بَهلا.

مدينة كَدم.. من خلال بواقيها التي درس بعضها الآثاريون تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، مثل:الأشخاص المنحوتين على «حصاة ني صلت»، والأشخاص المرسومين في منطقة المحمود. وقد ائتلفت -بتقديرنا- مشكّلة مدينة قبل إتلاف مدينة بهلا، لوجود حارة في بَهلا سميت «ني صلت»، كما حمل طريق ببَهلا اسم «سكة كَدم»، ولا يبُعد عندي أن يكون سور بَهلا بُني أسوةً بسور كَدم.

في قلب المدينة العتيقة.. ما بين «قرن كَدم» وقرية غمر يتمركز «معبد ني صلت»، وهو مجموعة متكاملة من المرافق العبادية الباقية أطلالها، ففي الوادي تحت القرن مباشرة تنتصب «قِبلة المعبد»؛ وهي صخرة كبيرة مكعبة الشكل، على وجهها الجنوبي نُحِت أربعة أشخاص: رجل رافعٌ خنجرا، وبجواره رجل وامرأة وطفل، وعلى وجهها الشمالي ثلاثة أشخاص؛ طمس الزمن كثيراً من ملامحهم. ووفقاً للغة السائدة حينذاك «اللغة السلوتية»..فـ«ني صلت» تعني بيت الله.

المنطقة الملاصقة لجبل كَدم.. تبدو كأنها مرفق جنائزي مهيب؛ فيما لو اعتبرنا أن الكهوف الثلاثة في أسفل الجبل ذات آثار الحرق؛ هي لحرق الجثث قبل التحوّل للدفن، قياساً على الجثث المحروقة المكتشفة تحت أرضية جامع بَهلا القديم، والتي ترجع إلى نفس الألفية، مع الاقتراح بأن المنطقة، كَدم وبَهلا، شهدت تحولاً طقسياً -أو دينياً- بالانتقال من حرق الجثث إلى دفنها في «القبور البرجية» بأعالي الجبال المجاورة.

وعلى الغرب من «حصاة ني صلت» سبعة جبال، بها آثار ورسومات وأنصاب، ونلاحظ هنا حضور الرقم سبعة مثل عدد الشخصيات المنحوتة على صخرة المعبد، وهو رقم مركزي في الأديان عموماً. بعض هذه الجبال أخذت أشكال حيوانات كالأسود والقرود، وكأنها تحرس «المكان المقدس». يوجد كذلك نُصبان؛ قد يمثلان «ربيّ الخصب»: الذكر«آب» والأنثى «أم»؛ ووجدنا أيضاً ما نقدّر أنه رسم لهما. وبقربهما من المتوقع المذبح لتقديم الأضاحي من البقر؛ حيث تتصدر المشهد لوحة أخاذة للأبقار المتجهة نحو المذبح، منها نوع منقرض من عمان. وبجوارها لوحة أخرى تحمل صوراً فريدة؛ منها صورة الفهد المنقط؛ رُسم بالثقب على الصخر، وربما تشكّل كذلك قبة سماوية لتوقيت فصول السنة، وبجوارها صور أخرى عُملت بنفس الطريقة، لم نحدد بعد هيأتها.

خلف المذبح.. يوجد ما نقدّر بأنه سوق، حيث كان قديماً السوق مرتبطاً بالمعبد، وهو منطقة واسعة تحيط بها الجبال، التي تمتلئ صخورها بالرسومات؛ لاسيما صورة رجل راكب على حيوان ممتشقاً بيده سيفاً أو رمحاً، وهو رسم منتشر في الجزيرة العربية وغيرها، والذي نقترح بأنه «سيت.. رب القوة».

و«سيت».. نرى بأنه خرج من عمان، ثم اتجه نحو العراق، مارا بالشام، ليستقر في مصر الفرعونية، وتوجد ثلاث بلدان عمانية تحمل اسمه؛ وهي: بلادسيت ببَهلا، وبلد سيت بالرستاق، ودارسيت بمطرح. ويبدو أن «سيت» كان متكفلاً برمي أرواح العصاة في جبل الكور؛ فالكور.. يعني موقد النار، حيث تتوسط بلادُ سيت «معبدَ ني صلت» وسلسةَ جبل الكور. أما جبل كَدم فواجهته كصدر طائر ضخم ناشر جناحيه، وكَدم باللغة السلوتية.. الطائر الذي يرفع الأرواح إلى السماء.

منطقة الحكم.. تسمى الآن المحمود، وهو وإن كان اسماً «عربيا»؛ إلا أن الأمكنة قد تتغيّر أسماؤها مع بقاء معنى الأصل، ولأنها كانت مقر الحكم فيناسبها دلالة هذا الاسم. على اليسار من الطريق المؤدي إلى الحمراء وقبل بلاد سيت توجد رسومات كبيرة، نقترح أنها لملوك كَدم، وتبلغ ست شخصيات، أكبرها أطول من ضعف قامة الإنسان، في الواجهة العليا لجبل المحمود، بينما تتوزع البقية على صخور كبيرة متناثرة على الأرض المجاورة للجبل.

هذه المنطقة.. فيها فلج عتيق، بالإضافة إلى فلجين إسلاميين، أحدهما يعربي. الفلج العتيق ذو ساعدين«ساقيتي مصدر الفلج»: أحدهما قادم من جهة الغرب، والآخر غيل الوادي النازل من جهة الضبانية المجاورة للمحمود، حيث توجد بأعلى الوادي أطلال سدين، وقد عثرنا على ما نظن أنها «خارطة» تتعلق بهما، مرسومة على صخرة بقارعة الممشى المؤدي إليهما. ثم يخرج الفلج بعد التقاء الساعدين جنوباً إلى منطقة كيد؛ الحديقة الخلفية لكَدم. وفيها عثرنا على رسم يشي بحدوث معركة حامية الوطيس، وبقربه خط قديم، وهو أحد الخطوط الثمانية التي اكتشفناها في كَدم وكيد.

ما وصفتُه هنا قليل مما هو ظاهر على السطح، وأما باطن الأرض فينتظر التنقيب، وعند الكشف عنه، وإعادة تأهيله، فإننا سوف نقف أمام مشهد مذهل يسفر عن مدينة من الألفية الثالثة قبل الميلاد، والتي قد تكون عاصمة الإقليم حينها، فإن أثبتت الدراسات ذلك وهو ما نأمله، فنستطيع أن نقول بأنها أقدم عاصمة لعمان.