أفكار وآراء

التعميمات والأحكام المطلقة .. وجهان لعملة واحدة

24 يناير 2021
24 يناير 2021

أحمد بن سالم الفلاحي -

ابتلينا نحن البشر بآفة اجتماعية خطيرة، لا تزال تمخر بين جوانب أنفسنا، فتميت الكثير من معززات حياتنا الاجتماعية كأفراد، وكمجموعات، وهذه الآفة هي الاهتمام المبالغ فيه بالآخر إلى درجة تتجاوز اهتمام هذا الآخر بنفسه فيغتال من حيث لا يدري- فهناك من يفكر عنه، وهناك من ينازع عنه، وهناك من يتقاضى ويقاضي عنه، وهناك من يورده موارد الهلاك والويل والثبور، وما هي محصلة ذلك كله؟ لا شيء، سوى تشويه صور، وإرباك مواقف، وتخوين ذمم، وتكريس صور نمطية مملة، فتغدو صورة المجتمع مشوهة، ومترهلة، وضعيفة، ومرتبكة، فتحتاج إلى الكثير من البناءات النفسية حتى تعيد سيرتها الأولى، ويحدث كل هذا لأننا نصدر أحكاما مطلقة، ونعمم هذه الأحكام على الجميع، بلا استثناء، مع أن حقيقة الأشياء، لا تحتمل مثل هذه الأحكام المطلقة، وهذه التعميمات المبالغ في توظيفها على الواقع، صحيح أن واقع الناس فيه الصالح والطالح، فيه المحسن والمسيء، فيه الأمين والخائن، فيه الصادق والكاذب، فيه الوفي والمخادع، فهذه الثنائية هي حقيقة بشرية بامتياز، وبالتالي فجريرة أحد ما، لا يجب أن يتحملها الجميع، وخطأ أحد ما، لا يمكن تعميمه على الجميع.

تتمحور الإشكالية في أية قضية مطروحة للنقاش، أو غير مطروحة في أن الكثير مما يحيط بالأسباب والمسببات لن تكون متاحة أمام الجميع، فوق أنها تغلفها الكثير من السرية، وما يتاح لن يفي بأن يبنى عليه أحدنا حكما مطلقا، فمجموعة الأسباب هذه تكون متاحة في مساحة ضيقة جدا، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وربما تكون أقل من ذلك بكثير، وبالتالي فلن يستطيع أحد ما تبني حكما مطلقا، أو تعميم تداعيات هذه القضية، أو تلك بصورة عامة، فسوف تكون مجازفة غير مأمونة العواقب، ولها سلبيات كثيرة على مستوى البناء الاجتماعي الكبير، ومن هنا يفترض أن لا يجازف أي أحد كان بتناول قضايا حتى ولو كانت عامة، وإطلاق أحكام مطلقة عليها، أو تعميم منشئها، لأن لكل قضية ظروف مختلفة، وأشخاص مختلفون، وإن جمعتهم بيئة معينة، أو جغرافية واحدة.

ينظر إلى تعميم الأحكام، والجزم بإطلاقها على الجميع، على أنها من الأفعال المهينة في حق الإنسان العاقل، الذي كرمه الله بالعقل الراجح، وبالنظرة الواعية، وبالإدراك الواسع، وبالرؤية العميقة، فالتعميم حالة خطيرة جدا، ولا يتبناه إلا أولئك الذين لا يدركون خطورة الإقدام عليه، وهذه ليست من صفة العقلاء، ولا الواعين لحقائق الأمور، ومعرفة التداعيات الناتجة فيما بعد، ولقد وقع الكثيرون جراء هذه النتوءات المشوهة للصفحة الإنسانية، والتي تحتاج كثيرا، وبصورة دائمة إلى تجليتها من عوالق السلوكيات المشينة في المجتمع، فكما هو معروف أن الصفحة الإنسانية من أخطر الصفحات حساسية في التاريخ الإنساني فهي المعفرة في جبين الحياة طوال التجربة الإنسانية، نظرا لما تتعرض له من التشوهات بسبب الفعل السيء للإنسان، وهو المتعرض دائما لتجربة الخطأ والصواب، وبقدر أهمية المراجعة الدائمة لمثل هذه الأمور، فهناك من يتعمد «تفريخ» الأفعال المشينة، ويعمل على تصديرها لأكبر عدد ممكن من الأفراد، وتأتي اليوم وسائل التواصل الاجتماعي لـ»تزيد الطين بلة» نظرا لانتشارها في أوساط المجتمع، وسهولة استخدامها في هذا الوسط، وبصور شمولية وواسعة.

نحتاج؛ في حالة أننا موكلين من جانب المجتمع إلى كثير من الأدلة، والبراهين، والحجج، والشهود، والمواقف المعلنة، حتى نصدر حكما مطلقا تجاه قضية لـ»فرد، مجموعة من الناس، سياسات، أنظمة» ومع هذا لن يتحقق هذا الشرط «التوكيل» لأن هناك جهات معنية من شأنها أن تسند إليها مثل هذه التوكيلات، وبالتالي فما هي مبررات الفرد العادي لأن ينبري ليطلق حكما مطلقا ما على كل ما سبق ذكره أعلاه؟ حيث تغيب عنه الكثير من التفاصيل، ومجموعة الظروف التي تحيط بكل واحد من هذه المفردات، إذن فلن يبقى هنا إلا مبرر واحد، وهو الحشرية الـ»ممقوتة» التي يتميز بها البشر، لأن القضايا المجتمعية كثيرة ومتنوعة، وتحتاج إلى كثير من الجهد، فقضية صغيرة عادية، ومكررة، قد تصبح قضية رأي عام في فترة زمنية محدودة، حيث تتاح الفرصة وخاصة اليوم في تبنيها من قبل الرأي العام بسهولة ويسر، نظرا لما توفره وسائل التواصل الاجتماعي، ولأن الحقيقة «غائبة» كما هو الحال دائما، فإن فرصة إطلاق الإحكام المطلقة فيها حاضرة، وفرصة تعميمها على الجميع حاضرة، ومسألة الأخذ والرد فيها أيضا حاضرة، وبالتالي متى توفرت هذه الفرص كلها في إثارة القضايا المجتمعية، تحول المجتمع إلى ميادين من الإشاعات الخطيرة، ومن الإساءة إلى الآخر، ومن الترويج للأخطاء بصورة غير مباشرة، وتبقى فرصة «تخلق» صور نمطية كثيرة حاضرة، حتى ليكاد المرء يشك في نفسه، وهل هو واقع في تشابكات هذه الصور، أم أنه لا يزال محافظا على كينوناته النفسية المتزنة، وأنه لا يزال بخير، إنها حالة يرتبك فيها العاقل، وقضية إثارة أو تكوين أو تعدد الصور النمطية في المجتمع تعد مسألة خطيرة على الأمن الاجتماعي، حيث تربك أفراده إلى حد كبير، فتصبح حديث الصغير والكبير على حد سواء، وتكون صورة الفرد في المجتمع مهزوزة، وغير محترمة، فيبقى في ذهنية الفرد أن الناس كلهم: لصوص، وخونة، ومتاجرين بالقيم، لا يأمن لهم جانب، ولا يستعطف فيهم صغير، ولا يحترم فيهم كبير، وكأن المجتمع غابة من الوحوش تأكل بعضها بعضا، وهذا الحكم غير صحيح إطلاقا، والأحداث المتباينة هنا أو هناك، لا يجب أن ينظر إليها من الزاوية الضيقة جدا.

يكفي أن يوصف من يروج الأخبار الكاذبة، والإشاعات المغرضة بـ(إن جاءكم فاسق بنبأ) فالفسوق وهو الخروج عن جادة الصواب، والذهاب إلى الانحراف، فمن ينحرف عن الطريق الأصوب، يكون كمن يتعمد بأن يهلك نفسه ومن حوله، ويرمي بها في مهاوي الردى، وبالتالي فالفاسق، وهو المدرك لكل هذه الانحدارات يريد أن يأخذ في طريقه كل ما يستطيع أن ينزلهم هذه المنزلة الخطيرة، فهو لا يريد أن يدفع ثمن فسقه وخروجه وانحرافه بنفسه، وبالتالي فإن سلم له الآخرون وأعانوه في مسعاه من خلال تبني ما يخرج عنه من سلوك، وقع الجميع في المحظور، ومن هذا المحظور هو التسليم المطلق لما يذهب إليه الفاسق من عمل، دون أن تترك فرصة للعقل، وللقيم، أن تأخذ طريقها نحو تصويب الأخطاء، والتقليل من فداحة الفعل المرتكب، فـ»تبينوا» هي إجلاء الحقيقة من المظان الخاصة، حيث يشعرنا فعل الأمر هذا بفداحة الأمر المرتكب من عدم التبين، والتأكد، وذلك لعدم الوقوع في منزلق الإساءة العميقة في حق الأفراد، وهم أبناء المجتمع، فالهدف هو (أن تصيبوا قوما بجهالة) لأن مآل هذا الأمر في حالة وقوعه (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وماذا ينفع الندم بعد أن يحدث ما حدث، وأن تصاب الأمة ما أصيبت به من مظان السوء، ومنقلب السوء، وتفتت اللحم، وتشتت الوحدة، وتصادم القوى، ووهن التعاضد، والتآزر، والتكامل.

عندما نتبنَى أحكاما مطلقة، فإننا بذلك نتجاوز الكثير من الحقائق المعرفية الدالة على ضرورة الأخذ بترشيد السلوك، ونتعالى على الكثير من القيم المتزنة، ونغض الطرف عن الكثير مما ينبغي أن يكون حاضرا، كالحكمة والتعقل، ساعة إطلاق مثل هذه الأحكام، وإلا أوقعنا أنفسنا في مزالق تربوية، ودينية، وتجاوزنا مختلف تعاقداتنا الاجتماعية التي تحكم سلوكنا تجاه الآخر، كما تحكم سلوك الآخر تجاهنا، ومن هنا ينظر إلى الأحكام المطلقة على أنها تفويض مجتمعي من طرف واحد مبالغ فيه إلى حد كبير، ولذلك تلقى هذه الأحكام الأرضية الواسعة لقبولها، ونقلها، وعدم التشبث من حقيقتها الموضوعية، وهذا الأمر يتنافى مع القيم الإنسانية -على أقل تقدير- ومع القيم المعرفية التي تذهب إلى التحقق من المصادر، والتأكد من حقيقة الأشخاص، لأنه بخلاف ذلك تأخذ المسألة منأى بعيدا، ولها تداعيات خطيرة على من أطلق عليهم الأحكام، وعلى توازن أفراد المجتمع في سلوكياتهم المختلفة.