أفكار وآراء

العالم في طريقه إلى ضبط أداء وسائل التواصل الاجتماعي

23 يناير 2021
23 يناير 2021

د. عبدالعاطي محمد -

لأن الولايات المتحدة لا تزال الدولة العظمى، فإنه دائما ما تأتينا منها مواقف وأحداث تؤشر إلى ما يمكن أن يكون اتجاها عاما في العالم. وخلال أيام قليلة شهدت البلاد تداعيات دراماتيكية غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي على خلفية ما جرى في الانتخابات العامة، حيث تصدر المشهد الإعلامي عنوانان كبيران، الأول حول حجب حساب الرئيس ترامب آنذاك في كل من منصات تويتر وفيسبوك وانستجرام ويوتيوب، والثاني حول تراجع منصة واتساب عن شروط جديدة للخدمة كانت قد أعلنت عنها في بداية العام، وكلاهما يعزز الاعتقاد بأن سعي حكومات العالم إلى وضع قواعد لضبط أداء وسائل التواصل الاجتماعي أو «السوشيال ميديا» يزداد نجاحا يوما بعد الأخر.

وقد تم حجب حسابات ترامب على خلفية حصار واقتحام الكونجرس (الكابيتول) من جانب أنصاره احتجاجا على عدم وقف نتائج الانتخابات التي رأوها مزورة. وكان الحدث مشهودا هز الولايات المتحدة والعالم بالنظر لأنه يمثل اعتداء غير مسبوق على واحد من القلاع المقدسة للديمقراطية في الولايات المتحدة. وارتبط الحصار والاقتحام بتحريض واضح من ترامب الذي كان قد جمع أنصاره أمام ساحة الكونجرس الخارجية مطالبا إياهم بالتصدي لعملية تصديق الكونجرس على نتائج الانتخابات بفوز جو بايدن. وكرد فعل انتفضت كبريات منصات التواصل الاجتماعي في البلاد وقررت تباعا مع بعضها البعض حجب حساب ترامب في كل منها، وكانت البداية من تويتر الموقع المفضل إلى قلب الرجل طوال فترة حكمه منذ 2017. والتبرير الأعم الذي استندت إليه هذه المنصات في موقفها الصارم من ترامب هو لأنه استغل حساباته فيها للعمل على وقف الانتقال السلمي للسلطة (20 يناير) والمشروع للرئيس المنتخب جو بايدن. ولكن كانت لهم تبريرات أخرى دارت بالعموم حول أن تغريداته وكتاباته حملت تحريضا على القيام بالعنف، ومثلت انتهاكا لسياسات هذه المنصات.

وترجع قوة الخطوة التي اتخذتها كبريات منصات التواصل، إلى أنها جاءت ضد أعلى منصب سياسي في الولايات المتحدة هو الرئيس، بكل ما تمثله البلاد من ثقل على المستوى العالمي، بما يعنى أن هذه المنصات يمكن أن تصطف إلى مؤسسات الدولة وتخدم أهدافها في المحطات الفارقة في حياتها السياسية، وليس أنها كما هو شائع تعمل منفردة وتأبى أن تطابق مواقفها وسياساتها مع مواقف وسياسات الدولة، استنادا إلى كونها منصات تعبر عن الواقع الافتراضي سِمَة العصر الحديث وتدافع بالمطلق على حرية التعبير. ففي لحظة فارقة مثل واقعة الكابيتول رفضت هذه المنصات أن تكون أداة للفوضى أو أن تكون بديلا غير منضبط للمؤسسات السياسية القائمة. وكان من اللافت أن هذه المنصات لم تضع اعتبارا للمبدأ الذي اعتادت أن تعمل به وهو الحرص على كسب المزيد من المشاركات على مواقعها.

فمن المعروف على سبيل المثال أن متابعي ترامب على منصة تويتر وصل عددهم لنحو ثلاثة ملايين متابع، كما أن من صوتوا لصالح ترامب في الانتخابات بلغوا نحو 75 مليون شخص. والفكرة هنا أن عامل الشهرة والشعبية الجماهيرية الذي يضفي سمة الأهمية على دور وتأثير كبريات المنصات ليس قاعدة مطلقة، وإنما هناك اعتبارات أخرى في نهاية الأمر تتعلق بالظروف السياسية والاجتماعية بل والاقتصادية تلعب دورا مؤثرا في سياسات ومواقف هذه المنصات، خصوصا في نظام سياسي بمكانة النظام الأمريكي.

وأما الحدث الثاني الذي أحدث ضجة داخل الولايات المتحدة وخارجها وإن كان أقل حدة من الأول، فقد تمثل في الخطوة التي أعلنت عنها منصة أو تطبيق واتساب في بداية العام، وتضمنت شروعها في فرض شروط جديدة لاستخدام الموقع الذي كان قد انضم في السابق إلى فيسبوك، من شأنها التوسع في امتلاك عديد البيانات الخاصة بالأفراد حتى يمكن لهم الاستفادة من خدماته، وحددت الشركة موعدا نهائيا للمشتركين الحاليين (أكثر من 2 مليار مشترك على مستوى العالم) هو 8 فبراير 2021 لقبول الشروط وإلا سيتم حذف حساباتهم. ولكن لم تمض سوى بضعة أيام حتى جاء رد الفعل رافضا بحدة شديدة هذه الخطوة سواء من جانب الشخصيات العادية أو الخبراء أو رجال الأعمال أو المنظمات الحكومية من كل أنحاء العالم استنادا إلى أنها تمثل انتهاكا كبيرا للخصوصية والأمن للمستخدمين. وكرد فعل أيضا قرر الكثيرون الانسحاب من الموقع والذهاب إلى تطبيقات أخرى مشفرة على جوجل وأبل لا تزال أكثر أمنا مثل تيلجرام وسيجنال. وشعر القائمون على واتساب بأنهم يخسرون سريعا كل يوم من التراجع في استخدامه والأعداد في هذه الحالة جاءت بالملايين، وعليه اضطرت الشركة سريعا إلى مراجعة موقفها وأعلنت إرجاء هذه الخطوة مؤكدة أنه لن يتم تعليق أو رفع أي حساب في الثامن من فبراير، وأنها ستبذل جهدا أكبر لتوضيح المعلومات الخاطئة بشأن سياسة الخصوصية والأمن الجديدة.

ومن الواضح أن الحدثين مختلفان من حيث طبيعة كل منهما، ولكن بينهما قاسم مشترك هو الانتصار لفكرة ضبط أداء كبريات المنصات أو شركات التقنية المعلوماتية الكبرى من خلال تدخل حكومى مشروع بما يضمن الاستفادة من المزايا الضخمة التي تتيحها هذه المنصات في الحياة العملية العامة على مستوى العالم كله وليس دولة بعينها، دون أن تكون معول هدم للدول ومؤسساتها المعتادة والراسخة أو طريقا لنشر الفوضى تحت دعوى ممارسة حرية الرأي.وهى مسألة تتعلق بالتشريعات.

فمن حيث مظاهر الاختلاف يمكن القول إن الحدث المتعلق بحجب حسابات ترامب هو ذو طبيعة سياسية تماما يتعلق بممارسة حرية التعبير عن الرأي من ناحية واستخدام المنصات كقوة سياسية جديدة تماما على التقاليد السياسية المعاصرة تساعد من يلجأ إليها في فرض نفوذه وأفكاره السياسية بعيدا عن سلطة الحكومات وخارج حدود القوانين السائدة. وأما الحدث الثاني المتعلق بتطبيق واتساب، فإنه ذو طبيعة اقتصادية إلى حد كبير، لأنه تطبيق يجرى استخدامه بين المتعاملين به لقضاء المصالح الاقتصادية والتجارية بشكل واسع وإن كان يجري استخدامه أيضا في العلاقات الاجتماعية بين المتعاملين وبالأخص فيما يتعلق بتسيير ما بينهم من مصالح. وليس معروفا أنه جرى استخدامه في الأغراض السياسية مقارنة بفيسبوك وتويتر. وقد كان من اللافت في هذه القضية أن التنافس بين المواقع والتطبيقات له خلفية قد يكون في تقدير البعض من الأمور المسكوت عنها، وذلك من منطلق اقتصادي بحت هو العمل على الاستحواذ على سوق الإعلانات التجارية. فمن السائد منذ تزايد انتشار شبكات التواصل أنها أصبحت مجالا مربحا جدا في التسويق التجاري للسلع والخدمات، وجاء انضمام واتساب إلى فيسبوك للاستفادة من توسع الأخير في مسألة الترويج الإعلاني للسلع والخدمات.

وبغض النظر عن التباين في طبيعة كل من الحدثين، إلا أنهما أكدا أهمية فرض قواعد لكيفية عمل المنصات.

ومن الصحيح أن هذا التوجه موجود منذ بضعة سنوات، ولكنه الآن أضحى مسألة على قمة جدول حكومات الدول الكبرى بالنظر إلى تأثيره الشديد في الحياة العامة وكل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولم يعد موضوعا من اهتمامات النخب أو الإعلام فحسب بحثا عن حل للمشكلات التي سببها الانفلات في استخدام هذه الأدوات الحيوية، وإنما من صميم مصالح الدول والحكومات بعد أن أصبحت المنصات عملاقا يعمل بقواعده الخاصة وفي اتجاه تهديد هذه المصالح إلى حد كبير. والقضية ليست هينة أو بسيطة لأنها تتعلق بالتوفيق بين الحريات والقيود القانونية والدستورية وبين الخاص والعام. والهدف هو السيطرة على هذا العملاق الجديد المتمثل في منصات التواصل لكونه قد أصبح قوة اقتصادية ضخمة من ناحية وبابا للعمل السياسي المستقل عن المؤسسات والقواعد القانونية القائمة. ولنا أن نتذكر ما جرى في الكونجرس قبل فترة ليست بالبعيدة من عقد عديد الجلسات لبحث الحد من نفوذ وسطوة كبريات شركات التواصل، ومنها الاجتماع بقيادات تويتر وفيسبوك ويوتيوب. ووقتها كانت الدوافع اقتصادية بالدرجة الأولى. وأما الآن فإنه قد أضيف إلى الدوافع الاقتصادية القلق من الانفلات في الدور السياسي لهذه الوسائل كما اتضح من واقعة اقتحام الكونجرس. ويظهر رد الفعل على المستوى الدولي، تزايد الاهتمام بإيجاد قواعد عامة تعمل من خلالها منصات التواصل في إشارة إلى عقد الأمل على المشرعين في مؤسسات كبريات دول العالم وعلى رأسها المؤسسات الأمريكية بالتعاون مع كبريات المنصات العالمية.

وقد عبرت عن ذلك المستشارة الألمانية ميركل عندما انتقدت بشدة قرار المنصات التي علقت أو ألغت حسابات ترامب فيها بعد أحداث اقتحام الكونجرس، حيث رفضت القرار باعتباره ضد حرية التعبير التي هي قيمة لا تنازل عنها لدى الديمقراطيات الغربية، ولكنها قالت ما هو أهم حيث وصفت الموقف بأنه يمثل إشكالية، بمعنى أنه من الممكن التدخل في حرية التعبير ولكن وفق الحدود التي وضعها المشرع وليس من جانب إدارة الشركات، فأما التدخل فإن تبريره يتعلق بأن هناك مسؤولية تقع على هذه الشركات في ألا تؤدي حرية التعبير إلى فوضى، وأما وضع الحدود فإنه من اختصاص المشرعين. وفي الحقيقة لا يسرى هذا التقدير على واقعة الكونجرس أي على الدور السياسي للمنصات، وإنما يسري أيضا على واقعة الواتساب أي على الحدود الاقتصادية التي تعمل من خلالها المنصات حتى لا تتحول إلى عملاق اقتصادي يحتكر السوق ويقضى على المنافسة التي هي جوهر الفلسفة الرأسمالية وسر تقدمها. والقصد أن الوعي العام على مستوى العالم يتجه إلى العمل على وضع قواعد عامة تضبط أداء شركات التقنية المعلوماتية الكبرى. وفي ضوء توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة ليس من المستبعد أن تكون القضية على رأس أجندتها في إصلاح ما أفسدته الإدارة السابقة، وعندما ينصلح الحال الأمريكي ينصلح بالتبعية الصالح العالمي.