أفكار وآراء

النظام الدولي والالتفاف على نظمه وقوانينه!

20 يناير 2021
20 يناير 2021

عبد الله العليان -

بعد قيام منظمة عصبة الأمم في عام 1919، وفشلها في حل مشاكل الدول وتحقيق السلام العادل، فتم الاتفاق بين الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية، على تأسيس منظمة الأمم المتحدة في عام 1946، بنظام ولوائح جديدة، ودخلت دول كثيرة في هذه المنظمة الدولية، ومن كل القارات، الصغير منها والكبير بعد استقلال الكثير من هذه الدول في مراحل عديدة، وكل يتوقع نظاماً جديداً عادلاً يعطي الحقوق لكل الدول دون تمييز ودون معايير متناقضة، بما يسهم في الاستقرار بين دول من خلال هذه المنظمة العالمية، لكن من أكبر السلبيات التي صاحبت هذه المنظمة الدولية، إن نظامها الأساسي الذي تمت صياغته، جاء وفق رغبات هذه الدول نفسها وحسب ما تريده توجهاتها السياسية عند الممارسة للقوانين، خاصة عند التصويت على القرارات التي تلزم الدول، وجعل لها التميز في إيقاف أي قرار تصدره المنظمة، حتى ولو كان القرار عادلاً ومنصفاً لمن له الحق بحسب ما يتم تداوله، فمن حق الدول الكبرى المؤسسة للأمم المتحدة، أن تستخدم حق النقض (الفيتو) لوقف تنفيذ أي قرار! وهذه بلا شك أسهمت في عدم إقامة نظام دولي عادل ومتوازن، يسهم في الحلول والمشكلات التي تقام بمنطق الإنصاف والعدل بين الدول.

ومع ظهور وبروز الصراع الدولي، بين المعسكرين الكبيرين.. الولايات المتحدة التي تقود المعسكر الرأسمالي، والاتحاد السوفيتي ـ سابقاً ـ الذي يقود المعسكر الشيوعي الاشتراكي، بدأت الحرب الباردة تشتعل بين هذه الدول، عسكرياً، وسياسياً، واقتصاديا، وإعلاميا، من هنا بدأ دور المنظمة الدولية يتراجع ويتوارى عن القيام بدور فاعل وقوي وفق النظام الأساسي الذي وضعته الدول نفسها وارتضت به، وبدأت بالفعل تتجاوز ما صاغته من قوانين ونظم لهذه المنظمة.. وهذه اللوائح والمقاصد التي طرحتها في تلك الصياغات كانت رائعة نظرياً، لكن في الواقع ليس لها أدنى تأثير فيما يتم مناقشته من الأفكار المطروحة ومنها كما تمت صياغته: «حفظ السلم والأمن الدولي، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرّع بالوسائل السلمية، وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها. إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام».

ولا شك أن الصراعات بين الدول الكبرى، والاستحواذ على المصالح، وإثارة النزاعات بين الأطراف التي تنتمي للمعسكرين، كانت من أجل بيع السلاح، وفتح الأسواق للمصالح الأخرى التجارية والاقتصادية وغيرها المصالح، وساهمت هذه الحرب الباردة في زيادة الحروب والتوترات والنزاعات، ومنها سباق التسلح، ولذلك تم إشعال عشرات الحروب، ودفعت الإنسانية ملايين القتلى والجرحى والمشوهين، وجلبت لهذه البلدان الفقر والدمار، والتخلف، ومئات المشكلات التي أصابت دولا كثيرة، ومنها ما يزال قائماً حتى الآن! بسبب الحرب الباردة التي حولت دولا كثيرة إلى حرب ساخنة ومشتعلة، واستمرت هذه الحروب حتى في فترة انتهاء الحرب الباردة، ومع الأحادية القطبية (وحيد القرن)، الذي استأثرت به الولايات المتحدة، بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، في أواخر التسعينات من القرن الماضي، والشيء الذي يبعث على الاستغراب، أن الولايات المتحدة الأمريكية، سمّت الوضع الجديد بعد حرب تحرير الكويت 1991، وقيام المؤتمر الدولي للسلام في يناير 1991، الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، والذي أقيم في العاصمة الأسبانية مدريد، واعتبر أن هذا المؤتمر أسس لنظام دولي جديد.

وتوقع العالم بعد ذلك أن مرحلة جديدة ذات سمات مختلفة، نوعياً عن المرحلة السابقة ـ فترة الحرب الباردة ـ سوف يقام هذا النظام الدولي الجديد مختلف عما سبقه، دون تحديد سمات هذه المرحلة ونظامها والقواعد والأسس التي تحكمها، عدا التصريح الذي أدلى به الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب أثناء حرب الخليج بأن:«سلطة القانون لا سلطة الغاب هي التي ستحكم سلوك الدول في المستقبل». هذه الإشارات من رئيس أكبر دولة في العالم بلا منافس، جعلت العالم ينظر نظرة متفائلة إلى متانة التصريح الذي بشر بنظام عالمي جديد يسوده روح الحق والعدل وقوة القانون بحيث يصبح أكثر عدلاً لحقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية والإنسانية التي هضمت إبان الحرب القطبية المتنافسة بين الدول الكبرى.

ولعل ما يسبب قلق الكثيرين من أعضاء الأسرة الدولية اليوم تجاه التوجه الدولي الجديد هو (ازدواجية المعايير) تجاه قضايا ومشكلات العالم بعد انتهاء القطبية الثنائية السابقة، وهذا ما يرسخ مفهوم التشكيك في تشكل (النظام الدولي الجديد)، ناهيك عن وجوده أصلاً.:«فقياسا على هذه التجربة السابقة ـ كما يقول شفيق المصري ـ فإن أي نظرة أحادية الجانب لتمييز الصديق من العدو والمحب للسلام من الكاره لـه، أمرا محكوما بظروف سياسية معينة لا يجوز اعتمادها كقواعد ثابتة في نظام دولي يجب أن يستوعب كل الدول وأن يكون التعامل واضحا وعادلا من معيار حصيف لا يقبل المكاييل المتناقضة في النظام الدولي، وفي هذا الإطار يمكن التحدث عن (نظام عالمي عادل ومستقر) لكن التوقعات الجديدة هو بروز قوة تشكل تحديا لنظام الأحادي القطبية الذي تتزعمه الولايات المتحدة، حتى إن البعض قال في هذا الصدد أن الرئيس الأمريكي جورج بوش، عندما كان يواجه العراق أبان حرب الخليج، كان يتوجه بتفكيره نحو اليابان وألمانيا، لكونهما قوى مرشحة لأن تصبح من الدول التي ستلعب دورا خطيرا في الصراع الاقتصادي مستقبلا الذي أصبح الأخطر الآن في ميزان الصراع الدولي». وهذا الأمر شكل أزمة في مصداقية الولايات المتحدة، عندما تحدثت عن نظام دولي جديد دون أن يتغير الجديد المنتظر الذي يسود فيه العدل، وتنتهي المظالم.

لكن التوقعات والآمال توارت عن الواقع، سواء في القضية الفلسطينية، أو القضايا الدولية الأخرى، سرعان ما تبددت بصورة مخيفة ومؤثرة على الاستقرار والأمن الدوليين، فالصراعات القومية والعرقية تفاقمت بصورة لم يسبق لها مثيل حتى أن البعض أعرب عن تشاؤمه من عبارة النظام الدولي الجديد واستبدلها «بالظلم الدولي الجديد» إشارة إلى ما يحدث للفلسطينيين خصوصا والمسلمين على وجه العموم، وحدث ذلك في بعض أقطار أوروبا الشرقية والبوسنة والهرسك، عندما طلبت هذه الشعوب حقوقها في الحرية والديمقراطية أسوة ببعض الدول التي ساهمت الدول الكبرى في الوقوف معها لنيل هذا الاستقلال، وازداد تجاهل المنظمة الدولية في أغلب الأزمات والتوترات، منها إقدام الولايات المتحدة على غزو العراق عام 2003، خارج منظمة الأمم المتحدة، عندما رأت أن الأمر سيعيقها عن أن تتخذ قرارات تسمح لها بالغزو، أو حصول حق النقض (الفيتو) لمنعها من بعض الدول، خاصة روسيا.

وبقيت القضية الفلسطينية معلقة دون أو الالتزام ببعض ما قيل عن تحول جديد للنظام العالمي، فتم تجاهل الوعود والتضمينات، ومن الرئيسين بوش الأب وبوش الابن، فالأول وعد بقيام سلام عادل وشامل الفلسطينيين وإسرائيل بحل الدولتين، والثاني وعد بدولة فلسطينية قابلة للحياة في 2005، وكذلك إنهاء مشكلة احتلال الأراضي العربية المحتلة في سوريا ولبنان، لكن الأمر كان مجرد وعود وتسويف وليست جدية للحل العادل الشامل، وربما من أجل تمرير الوقت الضائع، للحصول على تنازلات من قبل الفلسطينيين، أو اتفاقات تقبلها إسرائيل ما تريده لمصلحتها، ومنها عدم قيام دولة فلسطينية مستقلة، والآن فان الأمر ازداد سوءاً بعد أن اتخذت الولايات المتحدة، قراراً باعترافها بالقدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، ونقل سفارتها إلى القدس، وتشجيع دول أخرى على هذه الخطوة التي تمت تسميتها بـ (صفقة القرن)، وهذا ما رفضه الفلسطينيون، لان القدس قضية محورية، وهي في الوقت نفسه، تخالف القرارات التي صدرت بعد حرب عام 1948، التي اعتبرت القدس الشرقية جزء من السيادة العربية، ولذلك المنظمة الدولية أصبحت مجرد واجهة للالتفاف على النظم والقوانين، ولم تعد لها أثر، وهذا ما جعل العالم يعيش في شريعة الغاب!.