أفكار وآراء

هل أثرت سرعة الوصول للقاح كورونا على درجة كفاءته وسلامته؟

18 يناير 2021
18 يناير 2021

د.صلاح أبونار -

الراصد للمناقشات الدائرة حول إطلاق التلقيح بعد التصريح بلقاحات فايزر ومودرنا وأكسفورد، سوف يرصد الحضور القوي لموضوعين مترابطين. يطرح الأول قلق الرأي العام تجاه درجة أمانها وفعاليتها، والناتج عن السرعة الاستثنائية في الوصول إليها وإقرارها. ويسعى الثاني لتهدئة القلق عبر مناقشة أسباب هذا النجاح في فترة قياسية لا تتعدى عاما، مقارنة باللقاحات السابقة التي كانت تستغرق سنوات عديدة. ويمنحنا هذا النقاش مادة تفيدنا في تهدئة تلك المخاوف، وتمدنا بصورة دقيقة لأسباب هذا الإنجاز ودلالاته الإيجابية. تطرح تلك المخاوف عدة تساؤلات وهي : ما حقيقة قدرة اللقاحات الحمائية ومداها الزمني؟ وما تأثيرها على فئات المعمرين والحوامل ومرضى الأمراض المزمنة والحالات الخاصة؟ وهل يمكن أن تكون لها أثار جانبية لن تظهر إلا عبر الاستخدام الواسع وعلى المدى الطويل؟ تشكل إجابة تلك التساؤلات أحد محاور تقارير الترخيص باللقاحات، ونجد نصوصها الكاملة على مواقع الشركات، لكنها في حالتنا تطرح من منظور الشك الذي يولد الخوف. الخوف أن يكون تأثير الضغوط السياسية على سرعة الإنجاز أعمق كثيرا من تأثير الضغوط الإنسانية، حاملا معه مزيجا من تواطؤ الشركات مع الحكومات والتسرع في استخلاص النتائج. والخوف ألا يسمح هذا الاختصار الزمني باكتشاف كامل للآثار الجانبية الخطيرة، التي قد تظهر مع الاستخدام على المدى الزمني الطويل واتساع نطاق استخدامه داخل سياقات جغرافية وإثنية واجتماعية مختلفة، وسوف نجد أكثر مؤشرات تلك المخاوف دلالة في قياسات الرأي العام. وسنكتفي بقياس شركة ايسبسوس لحساب منتدى دافوس، خلال 17 -20 ديسمبر وبعد التصريح لبفايزر ومودرنا، على عينة من13500 فرد من 15 بلدا. توزع راغبو التعاطي بين ثلاث مجموعات. أولى عالية الموافقة، وتتكون من البرازيل والمكسيك وبريطانيا واستراليا وكوريا الجنوبية، بنسب موافقة تتراوح من71% إلى 78%، وثانية متوسطة الموافقة، وتتكون من أمريكا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا واليابان، بنسب تتراوح من60% إلى 69%. وثالثة منخفضة الموافقة وتتكون من روسيا وفرنسا وجنوب إفريقيا، بنسب تتراوح من 43% إلى55%. وفيما يتعلق بأسباب رفض التعاطي، احتل القلق من النتائج الجانبية القمة بنسب تتراوح بين 38% و65% ، والاعتقاد بعدم فاعلية اللقاح بنسب تتراوح بين 13% و 28% ، والرفض المبدئي لأي لقاح بنسب تتراوح من 4% و16 %. ويخبرنا التقرير بملاحظة دالة تفيد أن تلك النسب أقل من مثيلتها في استطلاع مماثل أجرته الجهة نفسها في أكتوبر وقبل التصريحات. وهكذا انخفض عددهم في 10 بلدان بنسب تتراوح بين1% و5%، وفي 3 بلدان بنسب بين 7% و14%. وارتفع في أمريكا فقط بنسبة 5%. والحاصل هناك درجة من الشك العالمي في جدوى وأمان اللقاح، ورغم تمثيل الراغبين للأغلبية، نظل في حاجة لمناقشة السبب المركزي للتشكك، أي تفسير العوامل الصانعة لسرعة الإنجاز، واحتمال تأثيرها على أمان اللقاح وكفاءته.

علينا بداية وضع الواقعة النقيضة في حجمها الحقيقي. كانت اللقاحات القديمة بالفعل بطيئة الظهور وأحيانا مفرطة البطء، ووفقا لتقرير لنيويورك تايمز في 30 أبريل تطلب لقاحا الحماق والإنفلونزا 28 سنة، ولقاحا فيروس الورم الحليمي والفيروس العجلي 15 سنة. ويمنحنا تقرير لمجلة نيتشر الأمريكية صورة للمدى الزمني الذي استغرقه لقاح الملاريا «آر تي أس أس»، ففي 1967 اكتشف العلماء إمكانية حماية الفئران من ملاريا القوارض بحقنها ببلازموديوم طفيلي غير نشط، وفي 1983 توصلوا للرمز الوراثي للبلازموديوم وأثبتوا قدرته على توليد البروتينات المضادة، وبعد عقد توصلوا لصيغة معادة التجميع لبروتين الرمز الوراثي تمكنت من حماية 6 متطوعين من كل سبعة، وفي 2004 أجريت تجربة على 2000 طفل في موزمبيق، وفي 2009 بدأت المرحلة الثالثة للتجارب الإكلينيكية، وفي 2015 حصل اللقاح على الموافقة الرسمية. والخلاصة استغرق التطوير 48 عاما لو اعتبرنا بدايته 1967 و32 عاما لو اعتبرناها 1983. ولكن تلك النماذج متطرفة البطء، ويخبرنا السير باتريك فالينس عالم اللقاحات المعروف:« كان الوصول للقاح يأخذ في المتوسط عشر سنوات، ولم ينجح أحد في إنتاج لقاح في فترة أقل من خمس سنوات». إلا أن هذا الإيقاع في حاجة لتقييم نقدي، هناك بالتأكيد دور لصعوبات البحث والتجريب ولكن هناك عقبات أخرى أهم؛ منها بعد مركز الوباء بضغوطه المحركة عن الغرب، حيث توجد القوى العلمية والاقتصادية المنتجة، ومنها تعددية الجهات المشاركة في العمل وتناقضات المنطق الموجه لتحركاتها وضعف التنسيق وتبادلية الموارد بينها، ومنها ضعف السيولة الاتصالية بين مراكز البحث العلمي، ومنها محدودية تأثير الحافز البحثي الأخلاقي وافتقاده للجماعية، وأخيرا وجود آلية شبه مقدسة لتنظيم العمل جامدة ومهدرة للوقت رغم ضرورتها. وبقدر ما كانت اللقاحات القديمة غير بطيئة كعملية علمية بالدرجة التي ظهرت عليها، سنجد لقاحات كوفيد 19غير سريعة بتلك الدرجة التي تبدو عليها، وهناك تباهٍ أن العمل الذي أنجز في أقل من عام كان ينجز من قبل في أعوام عديدة، وثمة وجه للخطأ وآخر للصواب في هذا التباهي.

وجه الخطأ أن الجزء الأكبر أو الأهم من العمل العلمي تحقق قبل الكورونا وعلى مدى العقدين الأخيرين، ويمكننا رصد ثلاثة أبعاد لهذا التحقق، من جهة أولى تراكمت المعرفة بفيروس كورونا بعد اكتشافه منذ نصف قرن، وعلى مدى الفترة اكتشفوا ودرسوا خمس نسخ منه، أهمها سارس كوف الأول السلف المباشر لسارس كوف الثاني الذي يسبب مرض كوفيد 19 ويتشاركان في 80% من الخصائص. وكانت الحصيلة أبحاثا عديدة وفرت للعلماء مادة علمية شديدة النفع في مواجهتهم للوباء؛ لذا «لم يبدؤوا من نقطة الصفر» وفقا لكيري بومان من جامعة تورنتو، بل من «حصيلة سنوات طويلة من العمل السابق» وفقا لانطونيو فاوتسي. ومن جهة ثانية مع تتابع الأوبئة على مدى العقدين الأخيرين، توفر لدى العلماء والمؤسسات الصحية قناعة أن هناك وباء كبيرا قادما في الطريق، يجب ألا يقفوا في انتظاره بل أن يستعدوا لمواجهته من الآن، وسوف نجد التوقع نفسه في تحليل البي بي سي لمسار تكون لقاح أكسفورد، وفي سياق التعامل مع وباء الإيبولا انتهى علماء أكسفورد للقناعة نفسها، ووضعوا قائمة بأوبئة مر بها العالم من قبل، احتوت في نهايتها ما دعوه «الوباء أكس» كناية عن القادم المجهول. وهكذا بدأت الدول والهيئات الدولية في الاستعداد وتعبئة الموارد، وفي هذا السياق تأسس «التحالف الدولي للاستعداد لمواجهة الأوبئة» ومبادرات أخرى. ومن جهة ثالثة تتابعت جهود العلماء على مدى العقدين الماضيين لبناء واختبار تقنيات لقاح جديدة أسهل وأسرع تصنيعا، وعندما حلت الكورونا كانت تقنية لقاحات رنا التي أنتجت لقاح بفايزر وموديرنا جاهزة للتطبيق، والأمر نفسه بالنسبة للتقنية التي استخدمتها جامعة أكسفورد، ولم يكن ينقصهما غالبا سوى مواءمتهما مع بصمته الوراثية.

وعلينا الآن أن ننطلق لتحليل وجه الصواب في فكرة الإنجاز السريع للقاح، ويتعلق أساسا بالجانب التنفيذي وجزئيا بالجانب العلمي، ففرضت الجائحة سياسات إغلاق افتصادي وتباعد اجتماعي، طالت الكثير من الدول وفي القلب منها أكبر اقتصاديات العالم. وأصبحت القواعد الاجتماعية لعملية الإنتاج والتوزيع، في حالة دفاع عن حياتها وعملها في وجه عدو باطش مجهول. وتشكلت في هذا السياق آليات للمواجهة يهمنا منها التعبئة الاجتماعية والتضامن الاجتماعي، وسنجدهما خلف أغلب السياسات التي رصدها المحللون كسبب للإنجاز التنفيذي الاستثنائي.

أوائل العام سلم الصينيون علماء العالم خصائص الفيروس، ووجد علماء التقنيات القديمة والجديدة أنفسهم ملزمين بتطبيق تقنياتهم على خصائصه الجينية. وكان نجاحهم في تحقيقها في هذا المدى الزمني أمرا بالغ الصعوبة، لولا التعبئة التي منحتهم طاقة ذاتية عالية ودعما منظما وسريعا، والتضامن الذي منحهم سياقا تعاونيا وسيولة اتصالية وتعددية في الموارد، وكان إنتاج اللقاحات يتباطأ بسبب عقبات تمويل الأبحاث والتجارب الميدانية، من حيث التوقيت والتوافق مع الاحتياجات والتجدد وفقا لتطور العمل. ولكن بفضل التعبئة والتضامن تدفق تمويل فوري ومتواصل وبلا شروط. وكانت الخطط المقننة لإنتاج اللقاحات، تفرض مراحل متتالية في البحث والتجريب الميداني، وتقارير دورية تراجعها هيئات التنظيم والرقابة، تتطلب جهدا وزمنا، ولكن لقاح الكورونا تحرر نسبيا من هذا النسق، متيحا إمكانية اختصار الإجراءات دونما انتهاك لحكمتها، عبر توفير الإمكانيات التنظيمية للبدء الفوري في التجارب بعد نهاية المرحلة المعملية، والدمج بين مراحلها الميدانية، وسرعة الاستجابة لطلبات الباحثين والمطورين، وانتهاج أسلوب المراجعة الدوارة للأوراق وليس المراجعة الواحدة بعد نهاية كل المراحل؛ لذا فاختصار فترة التصريح الرسمي. ولم يكن تجنيد متطوعي التجارب سهلا، فأعدادهم تتزايد من مرحلة لأخرى ليصلوا في المرحلة الأخيرة إلى عشرات الآلاف، ويتكونون من مجموعات متنوعة ومقننة بدقة، وكان هذا يستغرق شهورا قد تتخطى عاما. ولكن مع الكورونا أصبح من الممكن إنجاز تلك المهمة في يوم واحد، بفضل تفاعل آلية التضامن مع قنوات التواصل الاجتماعي. وكانت مرحلة التصنيع تبدأ بعد التصريح باللقاح بشهور عديدة؛ لأن لكل لقاح خصوصية تصنيعية تستلزم منشأة صناعية جديدة، ولم يكن من الممكن أن يخاطر مستثمر مالي بتأسيس منشأة للقاح لم يرخص بعد. ولكن مع الخسائر الفادحة التي حلت بالجميع، خاض مستثمرون مخاطرة إنشاء مصانع قبل الحصول على الترخيص، لينطلق التصنيع فورا.