أفكار وآراء

النظام الأساسي الجديد ... وبناء مؤسسي راسخ وطموح !!

18 يناير 2021
18 يناير 2021

د. عبدالحميد موافي -

ليس من المبالغة في شيء القول: إن إصدار جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- للمرسوم السلطاني رقم (6/ 2021م) يوم 11 يناير الجاري بإصدار النظام الأساسي للدولة ينطوي على أهمية عميقة ودلالة بالغة؛ نظرا لأنه جاء في الذكرى الأولى لتولي جلالته مقاليد الحكم خلفا للسلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وهو ما يشير إلى حجم العمل والجهد خلال العام الأول لتولي جلالته الحكم، والعمل من أجل إعادة صياغة وترتيب مؤسسات الدولة وأركان النظام السياسي العماني، وذلك من أجل وضعه في إطاره الدائم والراسخ والواضح والمستقر تماما، والاستفادة من تجربة العقود الماضية لصالح تمتين الاستقرار، والانطلاق بقدرة وكفاءة في مرحلة التنمية والنهضة الوطنية المتجددة بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق -أبقاه الله- وبوضوح كامل على كل المستويات والإجابة على كل التساؤلات، أيضا بشأن الدولة العمانية الحديثة في مرحلتها الثانية، الآن وفي المستقبل.

وإذا كان بعضهم قد فوجئ بصدور النظام الأساسي للدولة الجديد، أو أنه جاء أسرع مما توقعه بعضهم، إلا أن الواقع هو أن هذه الخطوة -بالغة الأهمية- تعني بوضوح أن جلالته يريد أن يضع النقاط على الحروف، وأن يرسي الأساس القانوني والسياسي للدولة العمانية الحديثة في انطلاقتها في مرحلتها التالية، وبما يكمل ما بدأه السلطان الراحل -طيب الله ثراه- وبما يمكّن الدولة العمانية من الانطلاق بكل قواها الوطنية نحو المستقبل الذي يتطلع إليه أبناء الشعب العماني بأطيافهم العديدة. وهذه خطوة كبيرة تعكس وضوح رؤية جلالته وحسم خيارات الحاضر والمستقبل وجسارة إعادة هيكلة وترتيب مكونات النظام السياسي العماني الذي قام واستمر على مدى الخمسين عاما الماضية.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الوثائق الدستورية، ومنها النظام الأساسي للدولة، هي وثائق سياسية وقانونية بالغة الأهمية للدولة والمجتمع والمواطن ولعلاقة الدولة مع محيطها ومع المجتمع الدولي من حولها أيضا؛ لذا فإنه يجري النظر إليها والتعامل معها بأكبر قدر من العناية والدقة والاهتمام، ليس فقط لأنها تمثل الأساس القانوني والدستوري لكل القوانين التي تصدر على أساسها، ولكن أيضا لأنها تنير الطريق للمستقبل وتحدد ملامح سياسات الدولة وتوجهاتها القادمة وعلاقات مؤسساتها السياسية والتنفيذية والتشريعية والقضائية والإدارية وغيرها ببعضها بعض وضمانات أداء كل منها لمهامها واختصاصاتها على أفضل نحو ممكن، فضلا عن تحديد حدود السلطات والاختصاص لكل منها، بما في ذلك مهام واختصاصات جلالة السلطان ذاته. ولذا تختلف الوثائق الدستورية، وتتنوع وتتعدد صياغاتها، وتتعرض للكثير من التعديلات، وفقا للظروف التي تصدر فيها وللأهداف التي تريد حمل مجتمعاتها إليها، ونظرة قيادتها لدورها ولما ينبغي القيام به من أجل حياة أفضل للمواطن والمجتمع، وتمكينه من المشاركة في جهود التنمية والبناء.

وإذا كان النظام الأساسي للدولة الذي أصدره السلطان قابوس -طيب الله ثراه- بموجب المرسوم السلطاني رقم (101 / 96) في 6 / 11 / 1996م، وجرى تعديله في عام 2011م قد شكل أول وثيقة دستورية في تاريخ عمان الحديث، ووضع أساسا للنظام السياسي العماني الحديث، وبلور الكثير من القواعد والأسس التي سارت عليها مسيرة النهضة العمانية خلال السنوات الممتدة منذ عام 1970م، وأنه واكب بدء تنفيذ رؤية (عمان 2020م)، فإنه من المؤكد أن النظام الأساسي الجديد، الذي أصدره جلالة السلطان هيثم بن طارق في 11 يناير الجاري يأتي ليواكب تطور المجتمع العماني، ولينطلق به أيضا نحو آفاق أرحب وأوسع من التطور والتقدم والازدهار، ليس فقط لأن المرحلة الراهنة تختلف عن المرحلة الأولى للتنمية التي صدر فيها النظام الأساسي السابق، ولكن أيضا لأن الأهداف والأولويات والموارد والتحديات والآمال تختلف الآن، وديناميكية المجتمع العماني تختلف أيضا الآن عنه قبل خمسة وعشرين عاما، وهذا كله ينبغي أن يوضع في الاعتبار عند النظر إلى النظام الأساسي للدولة الذي أصدره جلالة السلطان هيثم بن طارق، الذي حل محل النظام الأساسي السابق وتعديلاته. ويتواكب مع بدء تطبيق استراتيجية (عمان 2040م)، وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يأتي:

أولا: على المستوى الشكلي، أو العام، فإن النظام الأساسي الجديد جاء أكثر تفصيلا، وأكثر تحديدا في صياغته بالنسبة لمواد وجوانب محددة، وعلى نحو حدد مسؤولية الدولة بشكل أكبر وزاد منها في مجالات محددة، خاصة في التعليم والبحث العلمي وكفالة استقلال الجامعات وحرية الإبداع ورعاية المبدعين والرعاية الصحية والاجتماعية، كما تناول بتفصيل أكثر ما يتصل بالحفاظ على حرية المواطن وحمايته وكرامته وحياته الخاصة، ورعايته وكفالة حقوقه. وبينما جرى تقسيم كل من النظام الأساسي السابق والحالي إلى سبعة أبواب، فإن النظام الأساسي الجديد أخذ بأسلوب تقسيم الباب إلى فصول وهو ما أتاح إضافة جوانب وموضوعات ومواد جديدة ضمن الإطار العام للنظام الأساسي، وبينما كان النظام الأساسي السابق يتكون من 81 مادة، فإن النظام الأساسي الجديد يتكون من 98 مادة. وبغض النظر عن الفروق الطفيفة في الصياغة أحيانا، فإن النظام الأساسي الجديد جاء ليكون وثيقة دستورية دائمة ومتكاملة وقادرة على التعامل مع مختلف التطورات المحتملة كذلك، ومن هنا فإنه من الطبيعي والوجيه أن يجري التخفف من كثير من المواد التي أدخلت على النظام الأساسي السابق في تعديلات 2011م، والمتعلقة بتفصيلات العمل بالنسبة لمجلس عمان ومجلسي الدولة والشورى، وشروط العضوية وأدوار الانعقاد وغيرها، وإحالة تلك المواد والجوانب إلى قانون مجلس عمان الذي صدر بموجب المرسوم السلطاني رقم (7 /2021م) في 11 يناير الجاري، ومن ثم اقتصر النظام الأساسي الجديد على المواد الأساسية في هذا المجال. يضاف إلى ذلك أنه من الطبيعي أن تختلف ديباجة النظام الأساسي القديم الذي صدر عام 1996م عن تلك التي جاءت في النظام الأساسي الجديد، الذي يتعامل مع ما وصلت إليه الدولة والمجتمع العماني الآن بعد خمسين عاما من مسيرة النهضة المتجددة وما يجري التطلع إليه أيضا، والعودة إلى النصوص التي توضح ذلك، ولسنا في حاجة إلى الإشارة إليها هنا.

ثانيا: إن النظام الأساسي الجديد حرص على إعادة تحديد وضبط المهام والاختصاصات لمختلف أجهزة الدولة وسلطاتها بما فيها جلالة السلطان، وعلى نحو يتجاوز ما فرضته المرحلة السابقة من مهام واختصاصات تحملها السلطان الراحل من منطلق الحرص على تحقيق كل ما يمكن تحقيقه لصالح الدولة والمجتمع والمواطن العماني وبأسرع ما يمكن.

وفي هذا الإطار أيضا يتميز النظام الأساسي الجديد بأنه تعامل بوضوح وتحديد مع مسألة انتقال ولاية الحكم وتعيين ولي للعهد، وهو ما وضع نهاية لدور مجلس الدفاع في هذه الجزئية من خلال التحديد الدقيق والمفصل الذي تضمنته مواد الباب الأول من النظام الأساسي للدولة والخاص بـ «الدولة ونظام الحكم»، الذي أصبح مكونا من 12 مادة، بعد أن كان مكونا من 9 مواد فقط في النظام الأساسي القديم. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المادة (5) من النظام الأساسي الجديد نصت على أن «نظام الحكم سلطاني وراثي في الذكور من ذرية السلطان تركي بن سعيد بن سلطان وذلك وفقا للأحكام الآتية:

- تنتقل ولاية الحكم من السلطان إلى أكبر أبنائه سنا، ثم أكبر أبناء هذا الابن، وهكذا طبقة بعد طبقة، فإذا توفي الابن الأكبر قبل أن تنتقل إليه ولاية الحكم انتقلت إلى أكبر أبنائه، ولو كان للمتوفى إخوة.

- إذا لم يكن لمن له ولاية الحكم أبناء فتنتقل الولاية إلى أكبر إخوته، فإذا لم يكن له إخوة تنتقل إلى أكبر أبناء أكبر إخوته، وإذا لم يكن لأكبر إخوته ابن فإلى أكبر أبناء إخوته الآخرين، بحسب ترتيب سن الإخوة.

- إذا لم يكن لمن له ولاية الحكم إخوة أو أبناء إخوة تنتقل ولاية الحكم إلى الأعمام وأبنائهم على الترتيب المعين في البند الثاني من هذه المادة.

ويشترط فيمن يتولى الحكم أن يكون مسلما، عاقلا، وابنًا شرعيًا لأبوين عمانيين مسلمين» كما نصت المادة (6) من النظام الأساسي الجديد على أنه «إذا انتقلت ولاية الحكم إلى من هو دون سن الحادية والعشرين، يمارس صلاحيات السلطان مجلس الوصاية الذي يكون السلطان قد عينه بإرادة سامية، فإذا لم يكن قد عين مجلسًا للوصاية قبل وفاته، قام مجلس العائلة المالكة بتعيين مجلس وصاية مشكل من أحد إخوة السلطان واثنين من أبناء عمومته، ويصدر بنظام عمل مجلس الوصاية مرسوم سلطاني»

ونصت المادة ( 7 ) من النظام الأساسي الجديد على أن «يصدر أمر سلطاني بتعيين من تكون له ولاية الحكم وفقا لنص المادة (5) من هذا النظام وليا للعهد، ويحدد الأمر السلطاني اختصاصاته، والمهام التي تسند إليه. ويؤدي ولي العهد أمام السلطان، قبل ممارسته اختصاصاته أو المهام التي تسند إليه، اليمين المنصوص عليها في المادة ( 10 ) من هذا النظام» ونصت المادة (8) من النظام الأساسي الجديد على أنه «إذا قام مانع مؤقت يحول دون مباشرة السلطان صلاحياته، يحل محله ولي العهد»

وبموجب المواد المشار إليها تحددت بشكل واضح ودقيق ومفصل كل جوانب عملية انتقال ولاية الحكم ومن تكون له ولاية العهد وتعيينه وتحديد اختصاصاته، وعلى نحو لا يحمل معه أية فرصة للاجتهاد أو التأويل تحت أية ظروف، ومن ثم انتهت الصيغة أو الآلية التي حددها النظام الأساسي السابق التي ارتبطت بجلالة السلطان السابق -طيب الله ثراه- ودوره الوطني. والمؤكد أن تعيين ولي للعهد وفق آلية محددة واضحة وثابتة تمثل إضافة بالغة الأهمية لتحقيق المزيد من التماسك الوطني والطمأنينة في العمل من أجل المستقبل وبتضافر جهود الجميع وعلى قاعدة من الوضوح والشفافية التامة في هذا الشأن.

ثالثا: إنه في الوقت الذي جرى فيه التأكيد في النظام الأساسي الجديد على الأسس التي يقوم عليها الحكم في الدولة (المادة 12)، فإن المبادئ الموجهة لسياسة الدولة (الباب الثاني) أصبحت هي« المبادئ السياسية للدولة «المادة (13)، و«المبادئ الاقتصادية للدولة »(المادة 14) و«المبادئ الاجتماعية للدولة » المادة (15) و«المبادئ الثقافية للدولة» المادة (16) و«المبادئ الأمنية للدولة» المادة (17) مع التوسع في المبادئ الاجتماعية والثقافية لصالح المجتمع والمواطن العماني. ومن جانب آخر أضاف النظام الأساسي الجديد إضافات هامة وذات معنى في الباب الثالث، باب الحقوق والواجبات العامة، وهي إضافات تتصل بحماية حياة المواطن وحرياته وكرامته وحقه في حياة آمنة وحرمة حياته الخاصة وحرمة جسد الإنسان وحظر الإتجار بأعضائه وكذلك التزام الدولة «بحماية الملكية الفكرية بشتى أنواعها» وتعبر المواد (18) و(22) و(31) و(32) و(36) و(38) -وهي مواد جديدة كليا أو جزئيا، إلى جانب المواد الأخرى- عن الاهتمام العميق بحقوق المواطن وتوفير الأمن والطمأنينة له وللمقيم، والحفاظ على حرياته وكرامته وفق أفضل المعايير المعروفة في هذا المجال.

جدير بالذكر أن النظام الأساسي الجديد تضمن «نظام الوقف» (آخر بند في المادة 15) و«الإدارة المحلية» المادة (64) و«المتابعة والرقابة على الأداء الحكومي» المادة (65) والمادة (66)، كما أنشئت لجنة عليا مستقلة للإشراف على انتخابات مجلس الشورى برئاسة أحد نواب المحكمة العليا المادة (71) وبالطبع أية انتخابات أخرى كانتخابات المجالس البلدية وغيرها.

وباختصار شديد فإن النظام الأساسي الجديد هو نظام للحاضر والمستقبل ولتحقيق ما يصبو إليه المواطن العماني بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه-.