أفكار وآراء

المسألة الخليجية إشكاليات ما بعد المصالحة التاريخية

16 يناير 2021
16 يناير 2021

أحمد الإسماعيلي -

[email protected] -

لعلي أستعيد هنا ما كتبته في حسابي على موقع تويتر قبل شهر تقريبا من الإعلان عن المصالحة الخليجية؛ كان ذلك بتاريخ التاسع عشر من نوفمبر لعام٢٠٢٠، تحدثت في تلك التغريدات عن مقاربات سياسية جديدة يمكن أن تحدث في الملف الخليجي قريبا وقد تنتهي بعقد مصالحة تاريخية، وقد رأينا ذلك واقعا في القمة الخليجية التي عقدت في المملكة العربية السعودية قبل أيام بتاريخ الخامس من يناير لعام ٢٠٢١م، في مدينة العُلا التاريخية، مثّلَ المكان رسالة رمزية تشي بأن كل هذه التحولات السياسية المعاصرة التي أفرزت هذا الشقاق بين دول منطقة الخليج يمكن دفنها وقبرها هنا، حيث تعاقبت الحضارات في هذه المنطقة التاريخية، وأن هذا التاريخ العميق الذي عاشت فيه شعوب المنطقة كفيل بردم كل العقبات التي تعترض مجتمعات منطقة الخليج العربي، فالتاريخ أعمق بكثير من تحولات سياسية لحظية أيا كانت نتائجها، وأن هذه الأرض التي أقلت أسلافنا يمكن أن تحملنا نحن لنعيش فيها بسلام وأمان مستمرين، كل ذلك يمكن أن نستوعبه لحظة إعلان المصالحة التاريخية في القمة الخليجية الحادية والأربعين؛ لكن هل يعني ذلك بأن كل الإشكاليات التي تحولت إلى قطيعة سياسية استمرت أكثر من ثلاث سنوات قد انتهت بلا رجعة؟ أين يكمن الإشكال السياسي في المسألة الخليجية؟ ما هو سيناريو التحولات السياسية التي يمكن أن تحدث فيما بعد المصالحة الخليجية؟

عندما نحلل بعمق مثل هذه الإشكاليات فإننا يجب أن نسترجع عناصر عديدة في المسألة الخليجية؛ أهمها على الإطلاق مسألتان، إشكالية التحول من مفهوم القبيلة إلى مفهوم الدولة في منطقة الخليج العربي، وملف السياسات الخارجية لدول المجلس بكل إشكالياته المعاصرة، وتظهر هاتان المسألتان بشكل واضح في لعبة توازن شروط القوى السياسية والاقتصادية والجغرافية والبشرية بين دول المجلس اليوم. فمن التاريخ حيث صراع قبائل الخليج على دوائر امتلاك السلطة إلى لحظات تحول مفهوم القبيلة إلى مفهوم الدولة، هذا التحول الذي لم يمر عليه أكثر من مئة سنة ما تزال إشكالياته التاريخية حاضرة بقوة في العقل السياسي الخليجي المعاصر. فالذات القبلية ترغب في الشعور بذاتية الدولة، بذاتية السيادة الجديدة، بذاتية القوة الحديثة التي نشأت في ظل تحولات إقليمية عالمية كبيرة. لقد كانت دول الخليج حتى عام ١٩٩٥م تمثل في ملفاتها السياسية البينية امتدادا لمفاهيم العقل السياسي القبلي، وما يشكله هذا العقل من قيم سامية في إطارها الأخلاقي وطريقة العيش، وربما ساعد على ذلك امتلاك القطب الواحد شروط القوة بين دول المجلس في تلك المرحلة التاريخية؛ غير أن هذه الشروط تبعثرت أوراقها في منتصف العقد التاسع من القرن الماضي لسببين، الأول: في تحولات الدولة السياسية في قطر، التي تمكنت ضمن عوامل عديدة من إحداث انشطارات في أوراق القوة في كل ما يتعلق بملفات السياسات الخارجية لدول الخليج، وثانيا: في تحولات العقل السياسي الإماراتي في ملفات الإسلام السياسي؛ ليس محليا فحسب، بعد إغلاق منافذ حركة الإخوان المسلمين؛ بل خليجيا وعربيا وإقليميا. هذه الأشكلة لهذه المتغيرات أدت إلى بعثرة أوراق شروط القوة التي كان يتفرد بها القطب الواحد داخل مجلس التعاون، خاصة وأنها أصبحت مدعومة بموازنات مالية كبيرة سواء في قطر أو الإمارات، حيث الناتج الإجمالي الإماراتي والقطري مجتمعين أصبح يقترب كثيرا من الناتج الإجمالي السعودي، إضافة إلى الحضور السياسي الدولي لهذه الدول، ومقارباتها السياسية الجديدة.

أمام هذا الصعود المتنامي سياسيا واقتصاديا لبعض دول الخليج، حدث في المقابل تراجعات كبيرة في ملفات الإسلام السياسي التي كانت المملكة العربية السعودية مسيطرة عليها لفترة طويلة منذ الحرب الأفغانية، لقد بدأ هذا الملف يتفكك ويتراجع بشكل كبير مع موجات الربيع العربي، وأصبحت المملكة لا تملك خيوطه لسببين؛ تمثل أولا: في استيعاب الآلة الإعلامية القطرية لهذا الملف، وتشجيعها لمساراته الثورية، وثانيا: في تأثير هذه الثورات على السياسات الخارجية للملكة العربية السعودية من جهة، وظهور الإسلام الراديكالي بكل أشكاله، والذي تحرك في عدة دول عربية أثناء لحظات الربيع العربي بأطروحات مختلفة تماما تتعلق بمفاهيم معاصرة، كمفهوم الدولة والحريات وحقوق الإنسان، أو تلك المفاهيم التاريخية التي تؤمن بعودة التاريخ القديم، وهذا تمثل في الحركات الإرهابية التي نشأت في أفغانستان مرورا بالعراق، هذه الحركات تغيرت فلسفتها في مسألة المرجعية السياسية ونظرية الولاء السياسي، وأصبحت القوة والنفعية المحرك الأهم لهذه الجماعات في بناء مشروعاتها السياسية. وأمام كل هذه التحولات؛ كان لا بد أن ينفجر الخليج العربي سياسيا، والذي أدى إلى الإعلان عن قطيعة سياسية بين دول الرباعي (مصر، المملكة العربية السعودية، الإمارات، البحرين) وقطر في الجهة المقابلة.

لم يكن إعلان القطيعة السياسية مفاجئا بالنسبة للمتابعين والمحللين لكل هذه التحولات السياسية في منطقة الخليج، بقدر ما كان مربكا؛ لقد كان أيضا ضرورة تستدعيها تلك اللحظة التاريخية؛ لكي تهدأ قليلا لعبة أوراق السياسات الخارجية، ولتصبح شروط القوة ذات شكل ومسار سياسي جديد في منطقة الخليج العربي. وبما أن القطيعة السياسية لم تكن مفاجئة؛ فإن الإعلان عن المصالحة التاريخية لم يكن هو الآخر مفاجئا، فقد توصلت كل هذه الدول إلى نتيجة حتمية تشي بأن حقبة القطب الواحد داخل مجلس التعاون انتهت، وأن صراع الأوراق السياسية يعني تراجعا كبيرا في اقتصاديات هذه الدول يقابله ارتفاع في مؤشرات وعي الاجتماع السياسي، وهذه النتيجة قد تهدد المركزيات السياسية التقليدية لدول المنطقة مستقبلا.

إن هذه الدول تقع ضمن منطقة ملتهبة سياسيا، ولولا حجم الموازنات المالية التي تتمتع بها هذه الدول لأصبحت اليوم تعيش صراعات مختلفة نهائيا؛ فهناك الهند وإيران وتركيا، وكلها تحمل ملفاتها معها أينما وطئت أقدامها أرضا في منطقة الخليج، وهناك القوى التاريخية التقليدية تتمثل في الغرب السياسي، وهي منطقة صغيرة في جغرافيتها وقوتها البشرية وكبيرة جدا في موازناتها المالية التي تغري الجميع بإحداث مقاربات سياسية معها أو خلق صراعات سياسية من أجل مكاسب مادية.

إن أهم الإشكاليات التي يجب على دول الخليج العربي اليوم بحثها بعمق وبشجاعة كبيرة تتمثل في ملف السياسات الخارجية كشكل من أشكال التعامل الاستراتيجي والسياسي مع دول المنطقة إقليميا وعالميا، وثانيا في الملف الاقتصادي الداخلي، حيث النمو السكاني الكبير في بعض هذه الدول والمهددات الاقتصادية التي يمكن أن تؤدي إلى زعزعة استقرار بعض هذه الدول سياسيا واجتماعيا، وكل الآثار التي يمكن أن تصيب واحدة من هذه الدول؛ فإنها بلا شك ستؤثر على باقي الدول الأخرى.

أما ملف تنسيق السياسات الخارجية فلا يمكن بحثه دون إيجاد مقاربات سياسية في مسائل عديدة منها الآلة الإعلامية القطرية، والموقف من ملفات الإسلام السياسي المدعومة من تركيا بشكل خاص، وفي خزائن البيانات الضخمة التي تملكها بعض الدول عن هذا الملف بالذات؛ رموزه، وحراكه، رصد تطورات أفكاره، إضافة إلى إيجاد صيغة جديدة لمقاربات سياسية مع إيران بأي شكل من أشكال التهدئة السياسية. لقد بات الخليج اليوم أكثر قدرة على حل هذا الإشكال بسبب التراجع الكبير للملكة العربية السعودية عن دعمها لحركات الإسلام السياسي، وفي التحولات المدنية التنويرية التي أحدثها ولي العهد السعودي في السنوات الثلاث الماضية، هذا النوع من طريقة التفكير قادر على صياغة توازنات سياسية جديدة في هذه المنطقة خليجيا وإقليميا.

إن هذه الدول الصغيرة في جغرافيتها الكبيرة، وفي إرثها وتاريخها، والتي تبدو قوية في موازناتها الاقتصادية وموقعها الجيوسياسي يجب اليوم أن تتجاوز خلافاتها، لتبدأ جميعها رحلة جديدة في بناء المسؤولية التاريخية لشعوب هذه المنطقة، في ملفات جدا ضرورية ومهمة، لكي نصل يوما ما إلى مقاربات كبرى؛ سياسيا (توحيد ملف السياسات الخارجية) واقتصاديا (السوق الاقتصادي الخليجي المشترك)، ولا يشعر الخليجي بأي اغتراب اجتماعي داخل منطقة الخليج العربي.