987457866
987457866
عمان اليوم

أنــوارك تـضيء إلـى الأبـد

09 يناير 2021
09 يناير 2021

في الذكرى الأولى لرحيل السلطان قابوس -

عـاصــم الـشــيـــدي -

هل حقا مرّ عام كامل على رحيلك؟ كأن الأمر حدث بالأمس فقط، مآقينا لم تجف بعد من فرط البكاء عليك، ما زلنا نصارع اللحظة فلا نستطيع تصديق ذلك الرحيل ولا نستطيع تصوره رغم إيماننا بحقيقة الموت.

حيثما ننظر في هذه البلاد نجدك حاضرا، حاضرا في كل تفاصيلها، وفي كل ذكرياتنا المليئة بك وبإنجازاتك وبأمجادك التي سطرتها خلال نصف قرن، نراك في الوجوه وفي العمران، نراك في لحظات الفرح وفي لحظات الحزن، كنت نورا يضيء هذه البلاد، وصانعًا ماهرًا لمستقبلها.

كنت الحلم والرمز والملاذ والملهم. كنت الحب الذي لم يعرف العمانيون أجمل منه؛ وكان ذلك لأمل الناس فيك. أحبوك بمقدار إخلاصك لهم، ولقضاياهم ولأملهم الذي لم يخب أبدا.

قبل السبعين عندما كانت عُمان تحلم بك، وبيدك التي ستوقد مشاعل النور وتضيء كل الطرقات التي تكدس فوقها ظلام العقود الماضية وتراكماتها كان العمانيون يرسمون صورتك في مخيلتهم وحكاياتهم لأطفالهم قبل النوم، فتشكل ذلك الرمز في أذهانهم وتشكلت ملامح الحب قبل حتى أن تراك عيونهم. حلموا بك رمزًا وبطلًا يمكن أن يغير واقعهم الذي يعيشونه في تلك المرحلة الملتبسة من تاريخ عمان. لم يخب ظنهم فيك، أتيت لتعيد لهم أمجادهم التليدة وتبني معهم دولة سابقت الزمن نحو المستقبل، هي عُمان التي نعرفها اليوم والتي نعيش فيها أجمل اللحظات.

لقد صنعتك عمان بكل عظمتها لتكون ما كنته من الإنسان ومن السلطان ومن القائد والمُخلِّص الذي استطاع أن يرسم ملامح الطريق ويبني عُمان لبنة لبنة بصحبة أبناء هذا البلد العظيم.

لم تشأ يا سيدي السلطان الراحل أن تكون أدوارك في القيادة عادية تنقضي بانتهاء اللحظة الزمنية، ولكنك أردت، وبوعي تام، أن يكون دورك أكبر بكثير من ذلك.. فعرفت أنك البطل والرمز في عين شعبك وفيما أراده لك التاريخ فعملت وفق ذلك، فكان إنجازك فوق ما يمكن أن نتصور وأبعد بكثير مما أتاحته لك المدة الزمنية وحيثياتها لذلك أعطيت لنفسك الخلود الدائم رغم الرحيل الجسدي.. وكنت قويا شامخا حتى اللحظة الأخيرة رغم ألم المرض كما يليق بقائد عسكري عظيم يقف أمام جنده/ شعبه يقود معركة البناء والتعمير. فلم تتوقف تلك اليد العظيمة عن البناء حتى بعد رحيلك لأن كل المشروعات التي صنعتها بقيت حية مستمرة تكتسب صفة الديمومة.

استطعت أن تستجيب للتاريخ فتلعب فيه دور البطل الاستثنائي في تاريخ دولة استثنائية، وذلك الدور وتلك المكانة لم تأت لندرة الأبطال في تاريخ عُمان، فتاريخها عامر بهم وباذخ، قادة عظام وأسياد نقشوا مكانتهم على أحجار عمان الصلدة. وذاكرة هذه البلاد تتغنى بهم بطلًا بطلًا، وسيدًا سيدًا وتذكر آثارهم التي أينما وليت وجهك تجدها شاهدة على المرحلة.

لكنك تجاوزت دور البطل، وتجاوزت حدود الأسطورة لأنك اقتربت من قلوب الناس كثيرا، وسكنت فيها خالدًا إلى الأبد وأعطيت لنفسك صفة التأسيس لدولة عصرية مختلفة تماما عن السياقات السابقة وإن كانت تستمد أسسها منها.

وإذا كنت قد أتيت لعمان في لحظة يأس بين الأمل والرجاء، فقد أمسكت بالأمل وحققت الرجاء لشعب طالما انتظرك. واستطاعت همتك العالية أن تستوعب كل آمال الأمة العمانية. ونهضت بعمان وبآمالها كما ينهض طائر الفينيق من الرماد ويحلّق عاليا في عنان السماء.

لقد كنت جسرًا لعمان، كنت جسرًا عبر فوقه العمانيون نحو المستقبل، عبروا من لحظات اليأس إلى مساحات الأمل، ثم إلى ساحات المستقبل، ومن الضياع والشتات إلى الوحدة والثبات.

واليوم حينما نستعيد ذكراك ونرنو إلى تفاصيلك فينا، لا نريد أن تكون إلا أجمل المروج الخضراء في حياتنا نذهب إليها بالحنين والمحبة، ونشعر ونحن نستعيدها بالراحة والصفاء الروحي. لا نريد أن يتحول كل ذلك إلى تراث نضعه في المتحف ولكن نريده قيمة عالية نعيشها ونستعيدها، ونحاورها ونفكر فيها. ولذلك علينا أن لا نستخدم تراث السلطان قابوس ولكن علينا أن نخدم ذلك التراث، نخدمه بالتفكير فيه وتأمله وتطويره بما يتناسب ومعطيات المرحلة الجديدة، فلا نقف أمامه وقفة الكهنوت ولكن وقفة المتأمل والمتفكر فيه وفي آلية تطويره.

كما علينا أن لا نصنع من رحيل السلطان قابوس جدارا نقف خلفه نبكي ونستذكر اللحظات، رغم جمالها، بل علينا أن نستمر في الطريق الذي رسمه. وهو ما أكده حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم في اليوم الأول لتوليه مقاليد الحكم في البلاد حينما أكد في خطابه التاريخي: «إن عزاءنا الوحيد وخير ما نخلد به إنجازاته هو السير على نهجه القويم والتأسي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المستقبل والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه، هذا ما نحن عازمون - بإذن الله وعونه وتوفيقه - على السير فيه والبناء عليه لترقى عمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق».