أفكار وآراء

الدين والفلسفة والتصوف.. تكامل لا تعارض

03 يناير 2021
03 يناير 2021

خميس بن راشد العدوي -

الدين والفلسفة والتصوف.. ثلاث قضايا كبرى في حياة البشر؛ ينظر إليها غالباً على أنها مكونات معرفية، وقد مال التحليل المعاصر إلى اعتبارها بنية فوقية؛ بمعنى أنها قائمة على أصول نفسية أعمق منها، وبذلك.. يجعلها آثاراً للبُنى التحتية في النفس الإنسانية، فمثلاً.. بناءً على مدرسة التحليل النفسي الفرويدية هي أثر للدافع الجنسي، وبحسب مدرسة التحليل المادي الماركسية هي نتاج للمحرك الاقتصادي. وفيما يبدو لي.. أن هناك خلطاً بين الأصل الوجودي لهذه القضايا في حياة الإنسان والتفاعلات التي يبديها البشر من خلالها في واقعهم الاجتماعي.

فعلى المستوى الوجودي.. هذه القضايا لها وجود أصلي في ذات الإنسان غير مكتسب، والعلم حتى الآن لم يتمكن من تحديد مناطق وجودها البيولوجي، ولذلك.. يذهب التفكير عند القول بهذا الوجود إلى الجانب المادي البحت، لا أعني ذلك، فالوجود البيولوجي -عندي- يشتمل على وجود روحي أيضاً؛ وهو النفخة الإلهية للروح في الإنسان.

وعلى المستوى الاجتماعي.. فيمكن أن نرجع هذا التفاعل إلى عناصر أساسية عدة، وليس إلى عنصر واحد فقط، فالاجتماع البشري متشابك ومعقد. الجنس، والغذاء -بصورة أدق وأعمق من القول بالاقتصاد- بعض هذه العناصر، ومنها أيضاً حب التملك والرغبة في الاجتماع.

ينبغي الانتباه إلى أنني أتكلم هنا عن هذه القضايا بمعانيها المجردة، متجاوزاً إشكال التداخل بينها، لاسيما بين التصوف والدين، وكذلك بين التصوف والفلسفة.

الدين والفلسفة والتصوف.. تشكّل أبعاداً نفسية عميقة، فهي بنية وجودية تؤسس لممارسات الاجتماع البشري، هذا الاجتماع المتشابك يقدمها معرفياً بأنها غالباً متنافرة ومتعارضة، بينما وجودياً هي ليست كذلك، بل لا يمكن أن تتعارض المكونات الوجودية للنفس الإنسانية، فالتعارض يؤدي إلى الاضمحلال والتلاشي، كما أن التعارض في التفاعل الاجتماعي يؤدي إلى انحلال المجتمع وتلاشيه، ما لم ينتج حالة ثالثة تواصل تطور المجتمع، في ديالكتيك متواصل لا ينقطع.

هذه القضايا.. في أصلها «أجهزة» تنظيم للإنسان، فالدين نظام لعلاقات الاجتماع البشري، والفلسفة نظام لتفكير الإنسان، والتصوف نظام للتواصل مع الخالق. لكل نظام نطاق عمله، وما يظهر من تعارض إنما هو بفعل تشابك الاجتماع، وأغلبه تنظير معرفي، وليس واقعاً متحركاً، فمع التمعن.. لا نجد تعارضاً عملياً بين هذه القضايا الثلاث الكبرى، بل نجد تكاملاً بينها في الواقع العملي، وكل قضية تستمد من الأخرى، وحتى على المستوى المعرفي هناك جوانب من التثاقف بينها.

الدين.. يأتي من عند الله إلى الناس عبر الوحي عن طريق النبي لينظم الاجتماع البشري؛ في شعائره ومعاملاته وعلاقاته، ولا يمكن أن يكون الدين إلا كذلك، فهو لصيق بالاجتماع وقد جاء لأجله، وما نجد فيه من أشواق وجدانية وتأملات عقلية فهي بالأساس لخدمة النظام الاجتماعي، فالدين.. ينطلق في تنظيمه للاجتماع من القدرة على تنظيم الأفكار «المعتقدات» الذي يقوم به العقل، فلا توجد مسافة فعلية بين التفكير والعمل، ولذلك.. الدين لا يعتدّ بالأفكار المجردة ما لم تتحول إلى عمل، فلا يكفي أن تؤمن بالله ولا تعمل بتعاليمه. والدين كذلك يركن إلى العلاقة الموصولة بين الإنسان وخالقه، فلطبيعة الدين جعل الدافع للالتزام هو خوف الله ورجاءه.

وعلينا ألّا نخلط في الدين بين كونه تنظيماً اجتماعياً والفردية في الجزاء؛ دنيوياً أكان أم أخروياً، فالجزاء -بقدر الجرم- مهم ليدفع بالإنسان إلى العمل الجماعي، فهي فردية لخدمة الغرض الأساس للدين وهو تنظيم الاجتماع، فلا تناقض بينهما. وقد نرى النزعة الفردية لدى بعض ممارسي الدين، فهذه نزعة داخلية حريّ بها التصوف، وإنما تتذرع بالدين لهيمنته على الاجتماع.

التصوف -بغض النظر عن الخلاف في المصطلح- هو العلاقة الوجدانية بين الإنسان والله، فهو «عملية اتصال وتواصل» فردية بينهما، لأنها تحصل عبر الروح وليس من خلال العلاقات الاجتماعية، فلو عُزل الإنسان منذ ولادته عن الناس لحصلت هذه العلاقة، ولا يحتاج أن يكتسبها من خارجه، بيد أن التصوف يتحول إلى دين جماعي عندما يظهر على السطح الاجتماعي، ويأخذ سلوكاً دينياً، بل ويبرر وجوده بالدين.

كذلك.. قُدِّم التصوف بأنه متجاوز للعقل؛ موضعه القلب فقط، وهذا حاصل بسبب اللغة الظاهرية السائدة في المجتمع، وذلك.. لأن مما يتذرع به الإنسان هو المنطق المسلَّم به من قِبَل الاجتماع البشري، فلمّا أن التصوف بالأصل فردي لا يسهل له التعبير بلغة الجماعة عبّر عن نفسه بلغة خاصة غير خاضعة للعقل، وهي لغة القلب. والتصوف.. هنا يفعل عكس ما يفعله مع الدين، وذلك.. لأنه من السهل أن ينكر العقل فهو غير مقدس، بينما يصعب عليه أن ينكر الدين لكونه مقدساً.

العقل.. لأن تعقّله منتَج بشري غير مقدس بحسب تجليه الاجتماعي فقد اُعتبِر بأن عليه الوقوف على مسافة من الدين تحمي مقولاته من أن يصادرها العقل، بينما هو لم يأتِ لينفي الدين أو ينقض مقولاته، وإنما لينظم التفكير، وإن شئنا أن نتحدث عن شيء يمكن أن يعارضه العقل فهو التعامل البشري مع الدين، وليس الدين ذاته.

وبالواقع.. أن الدين لم يقدم نفسه بأن العقل يتعارض معه، بل اعتبره يدرك مقولاته التي مصدرها الله، كما لا يتأتى له أن يفهم الوجود دون الإيمان بخالق مكوّن مدبر له.

صفوة القول: إن الدين والفلسفة والتصوف قضايا وجودية في النفس الإنسانية، كلها بأصولها مجبول عليها الإنسان، وهي احتياج وجداني وبيولوجي، لا تتعارض بكونها أصولاً في النفس، بل تتكامل، وكل واحد منها «يرعى» شأن الآخر، هذا إن شئنا التقسيم، وإلا فبالأساس التقسيم اعتباري، فكلها موجودة في النفس من غير تحديد، وكلها نابعة من الروح الإلهي.

لقد ظهر التنافر والتعارض بسبب التفاعل الاجتماعي، وذلك.. لأن كل فرد له رغباته وآماله وآلامه وحقائقه وأوهامه التي يختلف فيها عن الآخر، وبسبب طبيعة الإنسان الاجتماعية ليحقق وجوده تتعارض هذه التفاعلات، وليس لها إلا أن تتعارض، لأجل أن يحصل التدافع لإعمار الأرض. فلو حصل التوافق التام بين جميع الناس فلن يحصل منهم إلا التكرار الكامل عبر أجيالهم، ولن يظهر ديالكتيك الفعل الاجتماعي الذي يوَلِّد حاجات وأفكاراً وأشواقاً جديدة، ولكانت الحياة مكررة باردة، كالتي نراها في سائر المخلوقات، فالحياة تحتاج إلى الاختلاف، وتحتاج كذلك إلى حرارة التنافس، وقد تصاعدت هذه الحرارة فأصبحت لهيباً من الصراع والاقتتال بين البشر، هذا اللهيب لا يهدئه إلا معرفة حقيقة وجودنا في الحياة، وهو ما ينبغي أن يسعى إليه الإنسان دائماً، عبر الوعي بأن التفاعل من خلال الدين والفلسفة والتصوف ليس هو حقيقة وجودها، وإنما حقيقته هي ذلك الأصل القابع في عمق النفس البشرية، والذي يسبح في بحر الروح الإلهي.

القرآن.. ليس ديناً اجتماعياً فقط، بل هو دين وعقل وقلب، دين ينظم الاجتماع البشري فكان الإسلام، وعقل ينظم التفكير سُمّي فلسفة، وقلب يتصل بخالق الوجود عُرف بالتصوف، يقول الله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)، فالآية ربطت بين حركة الاجتماع البشري والتعقل والقلب.

ويبدو للوهلة الأولى.. أن القول باجتماعية الدين متناقض مع مقالي «دين الفرد» الذي نشرته بتاريخ: 29/ 5/ 2019م في مجلة «تعددية» الرقمية التي تصدر في لبنان، وهو ليس كذلك، فهنا أتحدث عن الفعل الديني الذي لا يمكن أن يكون إلا جماعياً، وهناك تحدثت عن الإيمان وفهم الدين ذاته، الذي بدأ التفكير الديني لدى المسلمين في التحول إليه.