Screen Shot 2021-01-03 at 3.26.52 PM
Screen Shot 2021-01-03 at 3.26.52 PM
أعمدة

مقامات: حتمية الزمن بين بداية ونهاية

03 يناير 2021
03 يناير 2021

د. فاطمة الشيدية

ها قد مر عام على وجودنا في هذا الكون، على أفراحنا الصغيرة، وضحكاتنا المرهقة، على دوارنا وحنيننا، على فوضانا وعبثنا، على أحلامنا وهزائمنا، على آخر ضحكة من القلب، وآخر دمعة جرحت الروح، ها قد مر عام، انسل من أعمارنا خلسة كقطرة ماء معلّقة في سرة غيمة مرهقة، ذرفتها كدمعة أخيرة، مر العام ونحن لا نزال نمشي، ونمضي نحو الهاوية، ونعيش على قيد الأمل، نسحب جثثنا خلفنا كظل يراقب ما يحدث بعجز وصمت في الوجود العظيم الذي لسنا سوى هياكل صغيرة تحركها الأقدار بخيوطها الخفية فيه، كل شيء يمضي ونحن أيضا، نسير بخطى كسيحة في هذا الوجود، نعرج في عبورنا الهش والبسيط لأنه علينا أن لا نتوقف ولأننا «محكومون بالأمل» وربما محمومون به، مضى عام.. وجاء عام آخر، هكذا وبكل بساطة يحدث الأمر، ويتكرر كثيرا!

تمر السنوات ونحن نلهث وراء ما لا يأتي، وبين التفاؤل والتشاؤم هناك خيط رفيع نعيشه بحذر، أو بتناوب الحضور، نكْبِر أشياءً تصغر مع الوقت، ونحسن الظن في أشياء فيسوء مع الوقت، نرسم صورا بألوان فاقعة فتبهت مع الزمن، نشبك أصابعنا في عناق حميمي مع الفرح فتتراخى الأصابع رويدا رويدا مع الزمن وندرك أننا أصبحنا مع الغياب، تتحقق بعض الأمنيات، وتتسرب بعض الأحلام من الثقب الكبير في القلوب، تتغير ألوان الضحكات، وطعم الدموع، وطول القامات المنتصبة التي يخذلها الانحناء، ولا يحدث أكثر من ذلك.

ربما نتعلم بعض الدروس الكثيرة التي تتلوها الحياة على أرواحنا وأجسادنا بسياطها الطرية، فنمتثل للمدرسة الأم وندرك الكثير من الحكمة والمعرفة ولكن بعد مضي الوقت، أو بعد فوات الأوان، نعرف ألوان القلوب، وأحجام الضمائر، وأخلاق البشر، نعرف معاني جديدة، ونعرف معها أننا كبرنا، وأننا لم نعد نحتفظ بذلك الجهل الجميل، والهشاشة العفوية، والبياض الخصب، والجنون النبيل، فنبدأ في تطبيق الدروس الكثير عنوة، ونجبر أرواحنا الطيبة على الامتثال لحكمة الزمن، نلوي عنقها لتكون أكثر خضوعا لنا، وصرامة في التعامل مع الخارج «الجحيم»، نعاملها كشخص بعيد، نعزز فيها ما قدمت، ونحاسبها على ما قصرت، وعلى ما اقترفت من حماقات عذبة، وهزائم حنونة، وبالقليل من محاولة لملمة أشلائها، وتقدير منجزاتها، ندرك أننا أنجزنا الكثير من الأشياء الجميلة، وعرفنا القليل من الأرواح الطيبة، والقليل من الأرواح الخبيثة، وعشنا بعض السقطات المؤلمة، والخيبات الضاربة في الأعماق، وتمرأينا في مرايا طيبة فأصابنا نور بياضها، وأخرى مشوّهة هربنا من عتمتها كي لا توقظ صداع التعب، وفوضى الخسارات المجيدة، وثالثة عاكسة، فلم يرنا من تمرأينا في مرايا أرواحهم، بل كانوا يرون وجوهًا أخرى، وقلوبًا أخرى أكثر نصاعة وقربًا، لأن مراياهم عمياء وقلوبهم مشمّعة بالشمع الأحمر.

استمعنا لأكاذيب كثيرة، ولصدق قليل، عشنا أحزانا طازجة، وسخّنا أفراحا بائتة كنا قد وضعناها في الثلاجة للحظات السغب، كي نستشعر دفء الفرح حين يأكل الحزن أطراف أرواحنا. بكينا كثيرا نخب الألم الجليل، وضحكنا قليلا في صحة الروح، ومضينا كأشباح لا يرى منها إلا ظلال العبور!

مر قطار العمر تاركا محطة جديدة من محطات الوجود نحو القبر، تركها بكل خيباتها ودهشتها، الدهشة الجيدة من حجم الجمال في لحظة ما، والدهشة المستنكرة من قبح قلب في لحظة ما. ومعه غادر كل منا المحطة وفق ما هو عليه «تماما» بقبح وجمال، أو بتشظيات وانكسارات خفيفة، بأحلام سامقة أو بخيبات قاتمة.

وبين المحطتين كان كل منا يأخذ نفسا طويلا، ويمد يدا نحو دفء غيبي ما، ليكتب في الصفحة الأخيرة من «روزنامة» العام، عن شيء ما، هو أكثر ما حدث له خلال ذلك العام، عن يتم يشبه الفقد، أو حنين يشبه الوجع، أو فرح يشبه صرخة طفل غضة، ولا شيء أكثر من ذلك يحدث في تلك اللحظة الفاصلة بين عامين، لا يحدث سوى أننا نحصي أفراحنا وأتراحنا، هزائمنا وانتصاراتنا، ونضحك كثيرا على كل مرة سقطنا فيها، ننظر لها من جميع الزوايا من الأمام والخلف وعن اليمن وعن الشمال، قبل أن ننفض ملابسنا كطفل خجل، ونعاود المشي على رصيف الأمنيات المسمّى حياة، نفعل ذلك كثيرا ودائما، نفعل ذلك لأننا لا نملك غير ذلك، لا نملك خيارات الحياة، ولا حتى خيارات الموت.

الحياد مجددا، الحياد الذي يأخذ أرواحنا نحو السأم، ذلك الحياد القاتل الممل، السقيم، الباهت، المريض، الذي بلا طعم، ولا لون، ولا رائحة، الحياد الذي يقع في منتصف الأشياء تماما، تلك النقطة البؤرية البشعة بين المتضادات، بين الفرح والحزن، بين الصمت والكلام، بين الحياة والموت. الحياد الذي يشبه العدم، الحياد الذي تغيب فيه وصوفات الأشياء، ومقايساتها، وأحجامها وألوانها حتى الغثيان، وتلتقي فيه المتضادات بتلاحم خفي متآمر، الشر يوازي الخير، والقبح يوازي الجمال، والحنان يوازي القسوة، والحب يوازي الكره، لحظة إعدام ضمني لكل شيء داخلي وخارجي، لحظة تتوقف فيها سيرورة الوجود والذات والطبيعة والكون، لحظة تحتاج فيها أن تعلّق روحك في مشنقة خفية، لتلفظ ذلك الغثيان مع آخر نفس يخرج من جسدك!

لو كان الحزن!

لو كان الفرح!

لو كانت الحياة!

لو كان الموت!

لو أي شيء متطرف يدفع الحياة لدروب التعاسة الحقيقية، أو الفرح الطازج، لو أي شيء غير هذا الحياد.

لكن ليس إلا الحياد ونحن نستقبل العام الجديد على «الفيس بوك»، ببرودة لا تليق بعام جديد، يحمل حقيبته المكتنزة بالأحلام لعام كامل، ونهدي الآخرين ورودًا إلكترونية، وقهوة باردة، ونحتفل مع الأشباح والموتى، نسترجع الأغنيات الموجعة، والقصائد الذابلة، ونجوب ممرات الذاكرة الخربة نحو الغياب، نتذكر المطر الذي انهمر في غفلة من الوقت، نتذكر الفراشات الملوّحة، والحقول الميتة، نتذكر الورود والأشواك، نتذكر الضحكات الصادقة من القلب، والأرواح الممسوسة بالهذيان، نتذكر بحياد تام لا يقوى حتى على الألم.

في كل عام تغير الأقنعة مقاساتها وحسب، والوجوه التي تتشبث بالأقنعة تخفي كل شيء، الكذب المتقن على مساحات الوجوه، والكلام النيئ الذي يسيل من جوانب الفم، ومن هامش الصفحات، ومن بطون الأقلام، الكلام السهل المغمّس باللعاب والسم، الكلام الذي يخرس عند المواقف، ويتلاشى عند الصمت، ويغيب بخزي أمام فكرة رفيعة، أو مبدأ عظيم.

وفي كل عام ترتفع الأشياء العظيمة، والقلوب الصادقة البيضاء المنفتحة على الحياة والحب والصدق، القلوب التي تسيل حرية كالماء، وتُظهر مكنوناتها بفرح طفلي كأحلام البسطاء، وكالأرصفة التي تشرق عليها الشمس نقية ونظيفة، أو النوافذ التي ترسل قبلتها في الهواء للشمس كل صباح فتتمسك بظلها وظلالها ونورها وإشراقها بإيمان عميق، بينما تتساقط الأشياء المعتمة، والقلوب المظلمة، وتختبئ كالجرذان في جحورها، وتظهر منها رائحة نتنة تشعرك بضرورة الابتعاد ألف خطوة للوراء، وهكذا تعيد ترتيب أوراقك ودواليبك الداخلية، تعيد تنظيف روحك، وتنظيم حضور الآخر في دمك، ورغم أن الكثير يسقط والقليل يبقى، إلا هذا ما يجب أن يحدث كل عام.

مضى عام كان صعبًا جدًا وقاسيًا كثيرًا على أرواحنا وأجسادنا، رحل من رحل، رحلت الأجساد، ورحلت القلوب، ورحلت الأحلام، وجاء عام جديد لا يزال يضع قناعا كبيرا على جسده ليكشف لنا يوما بيوم، وساعة بساعة ولحظة بلحظة عن كل ما يخبئه من تقاسيم الفرح والحزن والحياة وربما الموت التي سيعزفها على أجسادنا وأرواحنا. عام استقبله الجميع بفرح غامر لأنه يحمل لنا في حقيبته الكثير من الهدايا والمفاجآت التي سنظل نراوده عنها عاما كاملا، والتي ليست بالضرورة أن تكون هدايا مفرحة، استقبلنا العام الجديد في بيوتنا وأحلامنا وخططنا وأهدافنا، وفي أرواحنا وأجسادنا، لأنه يسكن في تفاصيل حياتنا من الصحة حتى المرض، ومن الدمعة حتى الدهشة، نستقبله ونستحلفه بكل رجاء الحنان والأمان والصحة والفرح، أن رفقا بنا أيها العام الجديد!

ونقف قليلا في نهاية كل عام، لأنه عليك أن تقف قليلا لتقرأ العام الفائت داخليًا وخارجيًا، لتعرف موقع نقطتك الصغيرة أين ومتى يجب أن تضعها، وفاصلتك المنقوطة لتصلها بما قبلها من خطط وأهداف لتذهب للعام الجديد خفيفا من الخسارات مثقلا بالأحلام والآمال، لتعرف ماذا تريد وماذا ينقصك من كثير قد تتخلى عن أغلبه.

بالطبع ما زال الخراب هو الأكثر حضورا في الخارج، قتل ودمار، وحروب، من سياسات تصنع الجهل وتصدّر الموت، ومن مؤسسات سياسية ودينية واجتماعية وثقافية تشكل حواجز قوية لمنسوب الوعي المطلوب لتغيير الإنسان نحو الأجمل والذهاب به لمستقبل مشرق، وليس عليك سوى تجاوزها بالفردانية والبعد عن روافدها المقيتة بالتحرر الداخلي الفعلي والعميق والانحياز لذوي العقول الواعية والضمائر الحرة.

هناك أيضا كائنات معجونة بالقبح بكل أشكاله كالحقد والزهو الأخرق وجنون الظهور وغيرها من أمراض اجتماعية، تلك الكائنات الباهتة التي تلمع صورتها بالجهل، وتجملها بالنفاق، وتتطاول بالغيبة والنميمة، كائنات غالبا غير مكتملة سوى بالوهم تضع خطوتها الأولى على الطريق مرتعبة وتبدأ في سرد جنون العبث، قلوب فارغة، ووعي متأخر في الزمن وفي القيمة، وليس عليك سوى أن تجعل بينك وبينها سدًا منيعًا وأن تبتسم في داخلك وأنت تفعل ذلك بهدوء الكبير.

داخليا مر عام بهدوء وجمال وحب أكثر مما طمحت يوما، شرقت كثيرا بالضحك، وبكيت للذكريات أحيانا، أصبحت هادئة أكثر مما ينبغي، قرأت عشرات الكتب أغلبها في السرد، وتوطدت علاقتي مع الموتى أكثر وأكثر، أولئك الأحياء أكثر منا، نشرت كتابا جميلا، وحررت مسودات ونصوصا كثيرة، ولا أدري هل سيكون لها إثم الحضور كما أحلم أم ستدخل مجددا في إثم التأجيل، لم أعد أسوّف أنا أعمل ما أستطيع فقط، وهذا يكفي فلست في سباق مع الزمن فأنا أعرف سلفًا أنه الرابح أبدا. أحلامي تتناقص والفرح يزيد. علاقتي بطلابي تشبه علاقتي بالكتب تتجدد كل فصل وكل كتاب، وتتحول لذاكرة تتمدد وتخفت في ذات الوقت.

السماء فوق رأسي حنونة كالرب الذي أضع رأسي على قدرته فتدمع عيني سلامًا وأمانا، والأرض تدور كالاكتئاب والكتابة اللذين يدلفان لروحي من باب واحد.

علاقاتي ضيقة أفقيًا واسعة في امتدادها الروحيّ حيث أحيا مع القليل من أحبتي، بحري السعيد، وبضعة قلبي، وأسرتي الطيبة، وزملائي النجباء ونخبة من أصدقاء الفضاء الرقمي. وهذا يكفي فلست حزينة لذلك ولا خائفة من الغد. فقد تصالحت مع كل شيء حتى مع الموت خاصة بعد رحيل أبي.

أصبحت أدرك جمال النهايات وضرورة المقاومة كفعل يومي. أدرك أن الحياة فرصة محددة الإقامة وعلينا الانتباه لها والاستمتاع بها كل بطريقته، فكل الصراعات زائفة وكل الخسارات فيما عدا خسارة الذات باهتة.

الجمال وجهة نظر وربما الحياة بكلها كذلك. وعليك فقط أن تتصالح مع نفسك وبعدها تمضي بسلام متعالقا مع رب الوجود ومتقاربا مع الكون بما فيه. تمارس ما تحب فقط، وما تكره ترفع أمامه لافتة (لا) بقوة ووعي وثبات.

لا تنافق على حساب روحك كي لا تتعبها ولا تجامل خارج قدرتك كي لا تخسر إنسانيتك. منتبها أن الفضاءات الرقمية مجرد حالة يمكنها أن تكون صحية وتسعفك أو حالة مرضية فترهقك، وبها من النفوس الطيبة كما من النفوس الخبيثة، وبها من المرضى النفسيين وعيون الرقيب ما بالحياة أو أكثر كالجاسوس والمراقب الاجتماعي وغيرهم فاختر أصدقاءك كما في الحياة أيضا.

أما الكتابة فيها دفق عليك أن تستغله إن جاء وتعمّقه لاحقا. فالكتابة مطر داخلي لا يسقط إلا في الشتاء أيضا. فاستغل شتاءاتك في اللغة، أما حين تشرق الشمس فعش كثيرًا وجميلًا.

سلاما جميلا 2020 ويدًا ممدودة وقلبًا مفتوحًا للقادم من الأعوام، وسنة جديدة جميلة وطيبة على الجميع.