أعمدة

نوافذ : فـي سـياق التـتـابــع

01 يناير 2021
01 يناير 2021

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

أضع هنا مقاربة بين الفكرة التي أود مناقشتها؛ وبين «عصا التتابع» المستخدمة في سباقات الجري، وهي العصا التي لها مواصفاتها، وقوانينها؛ يعرفها الرياضيون بصورة أكثر دقة، وأكثر مهنية، ولئن تأتي «عصا التتابع» في هذا السياق، فإن نسق حياتنا اليومية لا يخرج عن هذا التتابع، ولئن بنيت فكرة «عصا التتابع» على التوالي، حيث يسلم الفريق الأول العصا للفريق الذي يليه، فكذلك حوادث حياتنا اليومية هي عبارة عن تتابع، تبدأ بنقطة انطلاقة، وربما لا تتوقف عند نقطة معينة، وإن توقفت فإنها تحمل دلالات كثيرة غير الفكرة التي انطلقت منها، وهذا ما يصعّب كثيرا المواقف بين الناس، وربما يؤزمها إلى حد تخلّق مشكلة جديدة غير التي بدأت، حيث تستوجب «عصا التتابع» أخرى وبمواصفات أخرى جديدة، وبشخوص أخرى تدخل معترك القضية.

يأتي الفرق بين «عصا التتابع» الرياضية، و«عصا التتابع» الحياتية في أن الأولى محددة بعدد لاعبين، وبهدف واضح، وبمسارات محددة، وبمسافات محددة، أي أن الانطلاقة تبدأ من النقطة (أ) وتنتهي عند النقطة (ب) حيث يكرم الفائز، ويواسى الخسران، ويُفضّ التجمع، وتخلو الساحة، وإلى مسابقات جديدة في موسم جديد آخر، أما في الحالة الأخرى؛ المرتبطة بحياة الناس اليومية، وبسلوكياتهم المختلفة، فإن الانطلاقة تبدأ من نقطة ما، ولا تنتهي، حيث تواصل مسيرتها إلى أزمان، وأمكنة غير محدودة، وإن كان اللاعب الرئيسي في كلا الحالتين هو الإنسان، إلا أن الإنسان في الحالة الرياضية محكوم بقوانين وأنظمة، لا يستطيع تجاوزها في ظروف ضيقة جدا، لا تكاد تذكر لمحدودية الزمن والمكان، أما في الأخرى فإن المسافة تطول، والزمان يتمدد، والأمكنة تتوسع، والشخوص تتكاثر، وليس إلى تحديد ذلك من سبيل، سوى القناعات التي يؤمن بها الناس من ضرورة التوقف، أو ضرورة الاستمرار، وهذه أكبر إشكالية موضوعية في هذه العلاقات المطاطية بين الأفراد.

تسجل الأيام كل يوم أحداثا متتابعة، ومواقف متتابعة، وآراء متتابعة، واختلافات متتابعة، وتصادمات متتابعة، واتفاقات متتابعة، وتقييمات متتابعة، وفي كل هذه الصور المختلفة هناك مناخات تؤجج هذه، وتهدئ أخرى، وفي كل هذه الصور، هناك من يلعب على وتر الاختلافات لزيادة رقعة الأزمات، وفي كل هذه الصور هناك من يكيل بمكيالين ليزيد من مدخراته المادية، والمعنوية، حيث يلعب أدوار «القط والفأر» حتى الرمق الأخير من مسرحية الأزمة، ولذلك تستمر أزمات الحياة؛ وتتجدد، وتتكاثر مصائب الحياة؛ ولا تنقص، وتتعقد حلول القضايا؛ ولا تنحل، وتأتي الأجيال تلو الأجيال، ولا تزال تتابع في السلوكيات ذاتها، وتتابع في الممارسات ذاتها، ولن تتوقف إلا إذا واجهت حاجزا صلدا لا يمكن النفاد منه كالسد الذي أقامه ذو القرنين بين القوم الذين استنجدوا به؛ وبين قوم يأجوج ومأجوج.

يمكن قياس هذه المسألة على شخوصنا كأفراد، حيث تبدأ نقطة انطلاقاتنا نحو فهمنا للحياة منذ بدأ الفهم بجوانب بسيطة مما يحيط بنا، ويتدرج هذا الفهم، ومعه تتدرج الرؤية، وتتسع المعرفة، وتتراكم الخبرة، وتتشعب الاهتمامات، وتتصادم الآراء؛ حتى على مستوى الذات الواحدة؛ حيث القلق، والارتباك، والتردد، وكلما قطعنا عمرا كميا من السنين التي يكرمنا الله بها، كلما ازدادت حالة التتابع هذه، حتى نصل من العمر عتيا، حيث تبدأ السفينة تتموضع في مرفئها؛ فمنا من يقتنع بهذه النتيجة المحكومة بالعجز، ومنا من يبحث عن ملاذات أكثر أمنا، ويظل على بحثه، حتى يصل إلى مرفأ «على آلة حدباء محمول» حيث الخاتمة، ونقطة النهاية هذه تأتي دون أن ندري، ولذلك ليست لنا يد في خاتمتها، ومن هنا تكون النهاية مفتوحة لنا كبشر، حيث لم نصل إلى خط النهاية بإرادتنا، فإرادتنا ما زالت قائمة على هذا التتابع، والتوالي، فسبحان الله وبحمده.