أفكار وآراء

الرؤية النقدية البعيدة عن الإنصاف!

30 ديسمبر 2020
30 ديسمبر 2020

عبد الله العليان -

طرح بعض الكتاب العرب الذين ناقشوا حركة الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر الميلادي، التي قام بها بعض المصلحين والمفكرين العرب والمسلمين، ومنهم الإمام محمد عبده، وقد انتقد البعض مسيرة هؤلاء المصلحين، لكني أرى أنها تحتاج إلى دقة منهجية وعلمية وإحاطة تامة بفكرهم، ومن الذين وجهوا نقداً، الأكاديمي المغربي د. محمد عابد الجابري، حيث أشار إليه في قضية مقولته الشهيرة التي قالها الإمام محمد عبده في مجلة الوقائع المصرية، في 19 أبريل 1881، والتي حملت عنوان (كلام في خطأ العقلاء)، وقد نقلها الجابري في كتابه (المشروع النهضوي العربي.. مراجعة نقدية)، فيقول في نص الإمام محمد عبده إنه كان: «يحذر فيها من إطلاق الحريات الشخصية قبل أن تترسخ التربية الصالحة في نفوس الناس، وكان يفضل «الكبسة» أي دهم الشرطة للناس في الأماكن التي تعتبرها «مشبوهة» ويرى أن «الكبسة على ما فيها من الخطر على النفس والأموال وشناعة الصورة، لو أحسن فيها القصد، لكانت أولى وأفضل، إلى زمن تتقدم فيه التربية فيكون لكل شخص زاجر من نفسه فترتفع الكبسة بذاتها».

لكن د. محمد عابد الجابري في رأيي، أخذ هذه الفقرة من سياقها أو في مرادها ، كما أرادها الإمام محمد عبده، لكنها المراد من ذلك وفق الموضوع المطروح، كان حول الحريات المنفلتة من مضامين القيم العامة، والمتعلقة بالمفاسد وليس بالحرية السياسية أو النيابية - كما يراها الشيخ محمد عبده - وهي كالمراقص والملاهي وما يستتبعها من المساوئ الاجتماعية، وليس متعلقة بمسألة الحريات السياسية أو الديمقراطية، والمقصد الذي أوضحه الشيخ محمد عبده بـ«الكبسة»، هو ما تقوم به الشرطة في الحفاظ على الآداب العامة، أو ما يسمى الآن في بعض الدول بشرطة الآداب، فما دخل «كبسة» الشرطة بمسألة الديمقراطية النيابية والحريات؟!، والحق أنني شعرت بالأسف من هذا التقييم غير الدقيق من قبل أكاديمي وباحث نجلّه ونحترمه.

فالدكتور الجابري اعتبر قضية «الكبسة» من خلال الشرطة، أنها تعني ـ كما قال الجابري في الفقرة نفسها من الكتاب «تشكيك الشيخ محمد عبده في جدوى الحريات الديمقراطية والحياة النيابية أدركنا مدى اتساع دائرة خصومها.. فعلا، كان محمد عبده يعتبر المطالبة بالحريات الديمقراطية من طرف التيار الليبرالي خطأ وخطراً». وفي الفقرة نفسها من مقالة الإمام محمد عبده، يرى الأستاذ الإمام وفق مقصوده ليس عن الحريات السياسية والنيابية التي يراها، أنها لا تعبر عن مضامين الحريات المتعارف عليها سياسياً التي لا خلاف عليها وضرورياتها فيقول عن هذه الحرية إنها: «خطأ من وجه إن كان لهم مقصد إصلاح، وظلم إن كانوا متعمدين هذا التقليد، ثم إنهم قلدوها في الأحوال الجزئية الشخصية، مع علمهم أن البلاد غير معتادة على مثل هذه الحرية فيها، فلذلك اندفعت الناس إلى انتهاب الشهوات، وهتكوا حرمة الوقار، وتهالكوا على شرب المسكرات في بلادنا الحارة إلى الحد الذي لا يبلغه الأوروبيون في بلادهم الباردة، وكثرت لذلك الحانات ومخازن الشراب المهلك للعقول والأبدان».

فلم يكن الأستاذ الإمام محمد عبده، ضد الحرية النيابية، ولا معارضاً للديمقراطية، وحرية الصحافة والنقد.. الخ، وفي رؤيته متسقا في هذه القضايا مع أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني في نقده وهجومه على الاستبداد وآثاره السلبية الخطيرة على الأمة بأكملها، وكتب العديد من الآراء الجديرة بالتقدير في السياسة والحكم والشورى ونبذ الاستبداد، والإمام محمد عبده في كتابه المعروف (الإسلام بين العلم والمدنية) قال: إن «الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة. نعم شرط فيه أن يكون مجتهدا أي أن يكون عالما باللغة العربية وما معها - مما تقدم ذكره- بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام، حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معا.. فالأمة أو نائب الأمة هما اللذان ينصباه والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه». وهذا الكتاب أغلب فصوله كان حواراً بين محمد عبده، والسياسي الفرنسي «ألبرت أوغست غاربيل هانوتو» الذي كان وزير الخارجية الفرنسية آنذاك، ودار حول قضايا الإسلام والغرب، والنظرة الغربية إليه ـ وقد نرجع إليه في النقاش ـ .

ويضيف الإمام عبده في هذا الكتاب أيضاً الفرق بين الإسلام والمسيحية في مسائل العقيدة وغيرها من الشرائع فيقول: «لا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (ثيوقراطي) أي سلطان إلهي، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله وله حق الأثرة بالتشريع وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة بل بمقتضى الإيمان، وأن اعتقد أنه عدو لدين الله.. ـ لكن ـ ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة العمل الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر». كما أن الإمام محمد عبده، رأيه محدد وثابت في قضية (الثيوقراطية)، أو الحكم الإلهي وفق الرؤية الكنسية، قبل حركة الأنوار التي أقصت الكنسية في القرن الثامن عشر عن تدخلاتها في السياسة والعلم والاختراع، فيرى في كتابه المشار إليه آنفاً : «يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكن للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره».

إذن كان الإمام محمد عبده واضحاً وناجزاً في مسألة التمييز بين السلطة المدنية والسلطة الدينية وعندما كان يساجل ضد فكرة وجود سلطة دينية في الإسلام - كما يقول د. عبد الإله بلقزيز- «لم يكن يجاري المستشرقين (رينان، هانوتو)، ولا كان حتى يقارعهم بحجتهم، بل كان يتوجه بالخطاب إلى أولئك الذين تذرعوا بالمسألة ليؤسسوا عليها حكما سياسيا استبداديا، على خلفية قولهم إن الإسلام لا يقيم فاصلا فيه بين الدنيوي والروحي، الزمني والديني. ففي الوقت الذي ينكر فيه محمد عبده «جمع السلطتين في شخص واحد» أي السلطة الزمنية والسلطة الدينية فإنه يذهب -أبعد من ذلك- إلى التأكيد على أنه ليس في الإسلام «تلك السلطة المطلقة التي كانت للبابا عند الأمم المسيحية، عندما كان يعزل الملوك ويحرم الأمراء ويقرر الضرائب على الممالك ويضع لها القوانين الإلهية». كما أشار الدكتور محمد عابد الجابري، في معرض انتقاده للإمام محمد عبده في هذا الكتاب، إلى أن رأيه فيما سماه بمسألة الاستبداد سلبيا أو مؤيداً له، ومما قاله الجابري في هذا الصدد، فيما يتعلق برأيه في الحياة النيابية والحريات السياسية. ففي مقالة له مشهورة.. كتبها بعنوان» إنما ينهض بالشرق مستبد عادل» نجده يقرر بكل قوة وإصرار أن الحكم النيابي البرلماني لا يفيد، ولا يصلح لمصر ودول الشرق وإماراته، بل لربما كان ضرره أكثر من نفعه. والحكم الأمثل في نظره هو حكم «المستبد العادل»، فهو يستطيع أن يفعل في 15 عاما مالا يستطيع النظام النيابي أو غيره عمله في قرون».

الغريب أن د. محمد عابد الجابري أشار إلى أن مقولة «المستبد العادل» في هذا الاقتباس المشار إليه آنفا بأنها تعني الاستبداد مع العدل، لكنه في مقالة سابقة له في مستهل تحديده لمفهوم الاستبداد، خالف هذا الرأي واعتبر أن مفهوم كلمة «المستبد العادل» لم يكن لها في المرجعية العربية القديمة ذلك المضمون السلبي الذي لها اليوم، واستشهد بالعبارة العربية المشهورة «إنما العاجز من لا يستبد»، وتعني في التراث العربي الإسلامي «الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه» ونحن نقول من جانبنا ماذا يعني هذا التناقض فيما طرحه الدكتور محمد عابد الجابري؟، فهل هذا يعني المقدرة على طرح النقد بسبب الاختلاف في الأفكار والمصطلحات؟ أم مجرد عدم بذل الجهد في البحث والاستقصاء في القضايا التي له فيها أحكام مسبقة، دون أن تتم استكمال كل الرؤى حولها، ولا يريد أن يحيد عنها؟