أفكار وآراء

سيكولوجية الثقافي

29 ديسمبر 2020
29 ديسمبر 2020

أحمد الإسماعيلي -

[email protected] -

أستعير هنا جزءا من عنوان الكتاب الذي ألفه عالم النفس الاجتماعي والفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون بعنوان «سيكولوجية الجماهير»؛ لأطرح في هذا العمود مصطلحا مقاربا له يتعلق بالتأثير الثقافي على الاجتماعي، يمكننا أن نطلق عليه «سيكولوجية الثقافي»؛ تلك الآثار التي يمكن أن يحدثها الثقافي في سيكولوجية مكونات الدولة وهياكلها واجتماعها السياسي، خاصة في مراحل التحولات الاقتصادية العميقة، ومراحل النهوض المتجدد للدول، فالثقافي هو روح الاجتماع الإنساني، يعبر عن طريقة العيش في المجتمعات الإنسانية، كما أنه يسهم بشكل أو بآخر في ديناميكية الحراك الاجتماعي. ولديه القدرة أن يصبح بديلا ناجحا ضمن مشروعات بناء الوعي الجمعي الذي تقوم به الدول. الثقافي المقابل لمشروعات الانغلاقات الفكرية التي تسعى إلى تصدع المجتمعات ضمن حقول التاريخ المغلقة، فالثقافي يستطيع أن يقدم نماذجه المعاصرة، معبرا عن تاريخيته الخاصة وعوالمه المعاصرة، ويعمل على تغيير طريقة التفكير الجمعي، وإعادة شحن المجتمع في ضميره لكي يتمكن من الاستمرار في البناء الحضاري المادي والمعنوي.

الثقافي في عمان مادة ضخمة وكبيرة جدا، فهذه الأرض استقطبت ثقافات متعددة من وراء البحار؛ ثقافات إفريقية وآسيوية، شكلت مع الثقافة العربية أنموذجا فريدا في الوطن العربي، وهي ليست ثقافة جديدة بل ممتدة عبر قرون من تفاعل الثقافة العمانية مع تلك الأنسجة الثقافية الممتدة عبر المحيط الهندي من جنوب شرق آسيا إلى شرق إفريقيا. قبل عدة سنوات التقيت بأحد الرموز المسؤولة عن البناء الثقافي في عمان؛ كنت حينها أرغب حقيقة أن يكون لعمان أنموذجها الثقافي الفريد الذي يستطيع أن يكون حيا بشكل دائم ليس للعمانيين فقط وإنما لكي يكتشف العالم الآخر عمق ما يشكله الثقافي في عمان من تراث كبير، كنت أعبر له عن رغبتي في أن يصبح الثقافي أنموذجا معرفيا بحيث لا يتجه بذاته إلى توظيفات مؤدلجة ذات تجارب سياسية غير ناضجة؛ لأن الدول إذا لم تحتضن نماذجها الثقافية بوعي عميق فإنها ستخلق فراغا ثقافيا يمكن سده بثقافات شعبوية أو مؤدلجة، فالمجتمعات لا يمكن أن تعيش فراغا ثقافيا كما لا يمكنها أن تعيش فراغا سياسيا أيضا، والمشروع السياسي إذا لم يتمكن من دعم وبناء نموذجه الثقافي المنسجم مع تاريخيته ومتغيراته السياسية فإنه لا شك سيخلق فراغا ثقافيا يمكن أن يمتلئ بنماذج انغلاقية وربما مؤدلجة كذلك، وقد تجد الدول نفسها في مواجهة مشاريع آحادية التفكير ورجعية أيضا وربما تشكل امتدادات أيديولوجية معينة، مما ينتج عنها تصدعات وتمايزات سلبية داخل الإجماع السياسي.

المشروع الثقافي ليس احتكارا للدول بل هو تأسيس نخبوي وفلسفي اجتماعي، فقاعدته التي يتأسس عليها وينطلق منها هي الاجتماعي وليس السياسي؛ لكن الدول يمكن أن تخلق نسقا ثقافيا معينا ترى أنه الأقدر على دفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى الأمام، وهذا النسق الثقافي بحاجة ملحة إلى تنظيم هياكله الثقافية داخل مؤسسة ثقافية واحدة، ونحن اليوم في عمان بشكل خاص نحتاج إلى قراءة واعية لكل الأوراق الثقافية المبعثرة ملفاتها بين هياكل مؤسساتية متعددة، نحن نحتاج إلى لملمة هذه الأوراق وإعادة تنظيمها من جديد لتشكل قيمة مؤسساتية عميقة. إن هذا الدور يجب أن تلعبه اليوم وزارة الثقافة والرياضة والشباب، التي قدم لها المقام السامي - حفظه الله - الملف الثقافي على طبق من ذهب لكي تبحر في هذا السياق، وعليها أن تعيد بناء هذه المنظومة وصياغتها بشكل احترافي لكي يصبح الملف الثقافي هو الحيز الوجودي الذي يجب على الدولة أن تشتغل عليه في السنين القادمة انسجاما مع رؤية عمان 20-40.

أين تكمن إشكالية الثقافي في عمان؟

إشكالية الثقافي في الوطن العربي بشكل عام تكمن في مسألتين؛ الأولى استقلاله العقلاني عن النص، فالثقافي لا يمكن أن يعيش مع النص؛ بمعنى أن النص لا يشكل رمزا فوقيا له، ولا يستمد قوته من النص، ولا يمكن محاكمته بنصوص فوقية عليه، فهو عبارة عن كائنات فكرية عقلانية، عقلنة التحولات الاجتماعية، فالثقافي هو العقل ذاته بعيدا عن التنصيص، ولهذا يمكن أن يشكل مقاربات فقط مع النصوص الفلسفية والمقدسة، لكنه يحلق بعيدا. وتكمن إشكاليته الأخرى في عمقه التاريخي، فهو لم يستطع أن يستقل كأنموذج اجتماعي؛ بل كان دائما مغيبا ضمن أوراق اجتماعية أخرى؛ ربما لأن سياق التفكير الإسلامي شكل قطيعة مع الثقافي من خلال تمظهراته الشكلانية غير المنسجمة إلى حد ما مع النصوص التاريخية، وربما لأن الثقافي لم تكن لديه رؤيته المستلقة عن النموذج الإسلامي، فوجوده المفاهيمي ارتبط بقيام الدولة الوطنية التي لم تظهر إلا حديثا في العالم العربي، بعكس العوالم الأخرى التي تشكل معها النموذج الثقافي منذ قرون، وأصبح أنموذجا يعبر عن روح الدولة والمجتمع كما نجد ذلك حاضرا بقوة في الثقافة الفرنسية والانجليزية والإيطالية وغيرها، فعندما تدخل أي دولة فأنت تقرأ نموذجها الثقافي مباشرة، فقد تأسس النموذج الثقافي هناك منذ عدة قرون، ارتبط ربما بالتحولات الفلسفية التي حدثت في مرحلة النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي.

إن أهم ما يميز النماذج الثقافية أنها نماذج مرنة، واعية بحركة الدولة المدنية ورؤيتها الاقتصادية والسياحية، فهي نماذج قادرة على التجانس مع الأديان ومع المدنية كذلك، ومع القوانين المعاصرة المحركة لروح الاجتماع الإنساني الحديث. الدولة الوطنية الحديثة بحاجة إلى بناء هذا الملف، فهو لا ينفصل أبدا عن الحراك الاقتصادي والمدني للدولة، ولا يمكن لدولة مدنية راغبة في الانفتاح السياحي والتوسع الاقتصادي أن تتخلى عن أنموذجها الثقافي الخاص بها، كما عليها ألا تشكل قطيعة سياسية معه، وإلا فإن الدولة ستحلق بأجنحة متضاربة في رؤيتها وهياكلها بين الاقتصادي والثقافي، بين المدني والفراغ الذي يمكن أن يحتضن هذا النموذج المدني الجديد.

هذه طبعا ليست دعوة إلى تأميم الثقافي لصالح الدولة، ولا إلى تقنينه لصالح الملف السياسي، ولا إلى إحداث قطيعة مع الأبنية التاريخية الأخرى؛ بل هي دعوة إلى تنظيم هذا الملف بشكل أكثر عمقا، فهناك الثقافة الفلكلورية، وعمان غنية بهذا النوع من الثقافة التي يمكن أن تشكل بناء فريدا في المنطقة العربية، وهناك أوراق ثقافية مبعثرة الآن بين عدة مؤسسات، ولا يمكن لهذه الأوراق المبعثرة أن تشكل بناء فريدا دون لملمتها وقراءتها بشكل عميق، وتحديد مساراتها وتشكيل رؤية طويلة الأمد، فما يتعلق بالثقافي يجب أن تراقب سيرورته وصيرورته وزارة الثقافة والرياضة والشباب، فهي المختص الوحيد للنظر في هذا الملف. إن إعادة هيكلة الثقافي لا تقل أهمية عن إعادة الهيكلة الاقتصادية، فكما تحدث أزمات اقتصادية نضطر معها إلى إعادة هيكلة المؤسسات الاقتصادية؛ فهناك أيضا تراجع ثقافي يحدث، نضطر معه إلى إحداث مراجعات جذرية لإعادة الهيكلة الثقافية من جديد، وعلى وزارة الثقافة والرياضة والشباب ألا تنظر إلى هياكلها الداخلية فقط؛ بل عليها أن تنظر إلى الملف الثقافي برمته في إطار بناء رؤية متكاملة، وإرساء جذوره وتعميق اشتغالاته الفكرية، وبعث تلك الإضاءات الجميلة التي أنارت عمق التاريخ. إن المجتمع اليوم بحاجة ماسة إلى ذلك لكي يتنفس اختناقات التحولات الاقتصادية التي تحدث في العالم، ولهذا على الثقافي أن ينسجم مع هذه المتغيرات، وهنا تكمن سيكولوجية الثقافي، في قدرته على التناغم مع إيقاع الحراك الاجتماعي، في قدرته على انتشال المجتمع من الصدمات الاقتصادية التي تحدث، في قدرته على استيعاب ضمير التحولات الاجتماعية، في قدرته على استيعاب التعددية، وفي قدرته على خلق جيل قادر على التفاعل مع ثقافات العالم المتعددة، ولا يمكن لأي مشروع آخر أن يكون بديلا عنه.