أفكار وآراء

الاتحاد الأوروبي في مواجهة تحديات إعادة بناء التحالف الأطلسي

28 ديسمبر 2020
28 ديسمبر 2020

د.صلاح أبونار -

انقضت صفحة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبانتهائها انقضى الكابوس السياسي الذي عاشه الاتحاد الأوروبي على مدى أربع سنوات. ولكن تلك النهاية السعيدة جاءت معها بوجهها الآخر النقيض، إذ وضعت أوروبا في مواجهة لحظة الحقيقة. أي حقيقة؟

التحالف الأطلسي ضرورة جيوبوليتيكية، ليس فقط بمنطق السياقات والتحالفات التاريخية طويلة المدى، بل أيضا بمنطق وحدة التحديات السياسية الخارجية والتحولات العميقة لموازين القوى الدولية. ولكن هذا التحالف لا يمكن إحياؤه إلا من خلال إعادة بنائه. فلا يمكن استعادة هذا التحالف في شكله القديم، القائم على القيادة والرعاية الأمريكية والاتكالية والتبعية الأوروبية. وإذا كان لهذا التحالف أن يقوم ويمارس فعله كقوة دولية، على الاتحاد الأوروبي أن يشرع في تحمل مسؤولياته داخله، ليس بالمعنى الاقتصادي الأثير لقلب ترامب الفقيد، بل أساسا بمعنى إعادة تشكيل نمط العلاقات داخله، وإطلاق الدور الأوروبي كقوة موازية للدور الأمريكي. وهنا تكمن مفارقة حادة وهي أنه لا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا من خلال بناء سياسة خارجية اتحادية واحدة، أي بناء آلية سياسية تنتقص من قوة التحالف بحكم طبيعتها ذاتها الانتقاص الذي يمثل شرطا لإعادة بنائه.

رغم التاريخ الطويل للعملية الاندماجية للاتحاد الأوروبي، لن نعثر على وثيقة ترسم أسس وحدود سياسته الخارجية مثل وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية. ولمرة واحدة صدر شيء مماثل مع صدور «استراتيجية الأمن القومى الأوروبي» عام 2003 ، ولكن تلك الاستراتيجية وفقا لفيديريجا بيندى وجيرمى شابيرو لم تعبر عما يريده الأوروبيون ومضت دونما أثر، وفي عام 2008 جرت محاولة لتحديثها انتهت بالفشل، وبعد تلك المحاولة توقف الاتحاد الأوروبي عن محاولة الوصول لوثيقة من هذا النمط. ولكن مقابل هذا الغياب نجد ما يشير للرغبة الجادة في تخطيه، عبر ظهور وشيوع مصطلحات مثل «الاستقلال الذاتي الاستراتيجي» و«السيادة» في أروقة بروكسل والدوائر القيادية لوزارات الخارجية الأوروبية. وبالتوازي مع هذا الغياب للسياسات الاستراتيجية وبالتناقض معها، يمكننا رصد ظواهر التكون الحركي التدريجي والمتفاوت لسياسات خارجية أوروبية مشتركة، لكنها تظل في النهاية أقل من المطلوب. وخلف هذا التناقض يمكننا رصد نمطين من العوامل: الأول يعوق تطور السياسة الخارجية الاتحادية الواحدة والثاني يدفع لتكون تلك السياسة.

ما هي أهم العوامل المعوقة؟

يتصدر تلك العوامل تراث الحرب الباردة، حيث جاءت النتائج المدمرة للحرب الثانية داخل أوروبا، وانطلاقة حركات التحرر الوطني في المستعمرات، والحرب الباردة التي تأججت من أوائل الخمسينات، معها بمؤثرات وخيمة على الدور الأوروبي، كذلك تراجع قدرات أوروبا ومواردها وشروعها في الانسحاب المنظم والتوافقي من المستعمرات وانحسار نفوذها الخارجي، وتوازن الرعب النووي الذي دفع بأوروبا الغربية صوب التبعية النووية لأمريكا، ومعها تأسست تبعيات سياسية أخرى. ونمو مطرد وعام للدور الخارجي الأمريكي عبر قيادته للحرب الباردة، واضطلاعه ببناء مؤسسات النظام الدولي، وتوسعه الخارجي في مناطق الانسحاب الأوروبي. وحمل هذا معه نوعا من الاستسلام للقيادة الأمريكية استنامت له القيادات الأوروبية، حتى أصبح بعضها يتشبث بها في تلك اللحظات التي تظهر فيها واشنطن ضجرها منها. وثاني تلك العوامل تعددية قاعدة الكيان الاتحادي بما تفرضه من تناقضات، إذ يتكون الاتحاد الأوروبي من 28 دولة، تتفاوت في المصالح والقوة والنظام السياسي والموقع الجغرافي والتهديدات الأمنية والتحالفات الخارجية، وبالتالي في الرغبة في الاندماج في مشروع سياسي خارجي أوروبي واحد. ومن الصحيح أن المشروع الاتحادي يقلص تأثير بعض التناقضات ويلغى تأثير الآخر، لكن من الصحيح أيضا أنه حتى الآن يظل عاجزا عن تحييدها كليا. وثالث تلك العوامل التحولات الأوروبية في العقدين الأخيرين. ونعني بها تراجع أحزاب التيارات الأساسية التي حكمت أوروبا لأربعة عقود وقادت مسيرة الاندماج الأوروبي وتقدم الأحزاب الشعبوية حتى أصبحت على وشك الاستيلاء على فرنسا، وتراجع حجم التأييد للمشروع الاتحادي حتى وصل للبريكست، وتآكل النخب الحاكمة القديمة واختفاء القيادات الملهمة، وتراجع منظومة القيم الليبرالية العامة ومعها تقدم منظومة شعبوية وقومية ومحافظة. وحملت تلك التحولات معها نوعا من الصعود القومي وقدرا من التباعد عن المشروع الاندماجي، الأمر الذي قلل من قوة الدفع المؤسسي والقاعدي نحو سياسات خارجية أوروبية واحدة.

وفي مواجهة تلك العوامل وقفت عوامل أخرى دفعت صوب تكون سياسة خارجية أوروبية واحدة. أولها انهيار الحواجز السياسية بين الدول الأوروبية، مع نهاية الحكم الديكتاتوري في أسبانيا والبرتغال في الثمانيات، وتحرر أوروبا الشرقية من السطوة السوفييتية في التسعينات. وبالتالي تخلقت قوى دافعة لتوسع المشروع الاندماجي عبر موجات متتالية، وحمل هذا معه وعي بإمكانيات قوة أوروبا ودورها الدولي الأوروبي، وتطلع صوب الاستقلالية الاستراتيجية عن الدور الأمريكي. وثانيها تطور هيكلية الاندماج الأوروبي، وانتقاله من المجال الاقتصادي للمجال السياسي مع نهاية الحرب الباردة ومعاهدة الاتحاد الأوروبي 1992 ومعاهدة برشلونة 2007، وما رافق ذلك من تبلور لمؤسسات اتحادية مركزية تتولى مهام السياسة الخارجية. وثالثها نشوب أزمات متتالية انتهجت أوروبا فيها توجهات مناقضة للسياسة الخارجية الأمريكية، مثل رفض سياسة واشنطن في فرض عقوبات على إيران أواخر السبعينيات وشاركتها مقاطعة أوليمبياد موسكو 1980، الأمر الذي أسهم في السعي لتأسيس سياسة خارجية مستقلة.

والأمر المؤكد أن التطورات الأخيرة على جانبي التحالف الأطلسي، سواء خلال رئاسة ترامب أو المتوقعة خلال رئاسة بايدن، من شأنها ترجيح كفه العوامل الدافعة لتكوين سياسة خارجية أوروبية. لا تنوي واشنطن العودة لتحمل كامل تكاليف الاتكالية الاستراتيجية الأوروبية القديمة، سواء بمعنى تكلفة الأمن والتسلح الإقليمي أو بمعنى تكلفة السياسة الخارجية، وستواصل ما كان يقوله أوباما في الغرف المغلقة باعتدال وحرص على التحالف، ثم جاء ترامب ليقوله علنا وبفظاظة مهدرا لعلاقات التحالف. وستواصل واشنطن سياسة التركيز على المجال الآسيوي، فهي أصلا السياسة التي أطلقها أوباما، ثم واصلها ترامب ولكن بتطرف وعدائية. وفى ظل سيادة مبدأ التعددية الدولية كقاعدة موجهة للسياسة الخارجية، ستجد الإدارة الجديدة من صالحها تحول الحليف الأوروبي إلى شريك مستقل، عبر سياسة خارجية مستقلة في إطار مبدأ التحالف.

وعلى الجانب الآخر وجد الحليف الأوروبي نفسه خلال العقد الأخير في مواجهة أزمات ضارية. من الشرق انطلقت التدخلية الروسية مع الاستيلاء الروسي على شبه جزيرة القرم، ثم اتخذت بعدا أكثر خطورة مع التحالف الروسي مع الأحزاب الشعبوية، والانتهاك المتكرر للانتخابات الأوروبية. ومن الجنوب انطلقت من مطلع العقد الثاني عاصفة اضطرابات في سوريا وليبيا والعراق، حملت معها تهديدات لتدفق الطاقة لأوروبا، وصعود للحركات الإرهابية دفع بها للداخل الأوروبي، وتدفقات الهجرة السورية الواسعة والشرعية عبر تركيا وهجرات أخرى غير شرعية عبر السواحل الليبية. ولكن مواجهته لتلك الأزمات لم تكن على الدرجة الكافية من الفعالية والسرعة، وضاعف تأثير هذا القصور الوعي أنها تحديات قابلة للتصاعد وستتواصل لفترة ليست قصيرة، الأمر الذي يفرض مراجعة مدى كفاءة أسلوب المواجهة ومعه مجمل توجهات وأدوات السياسة الخارجية. ولا تتوفر لنا تحليلات لمسار تلك المراجعة، لكن الأمر المؤكد أنها تجربة داخل دوائر السياسة الاتحادية، وأنها ستدفع في النهاية صوب تطوير الإطار المؤسسي لإدارة تلك السياسة. ولكن المراجعة الأوروبية للسياسة الخارجية لا بد أن تشمل الضفة الأخرى للأطلسي. لن يكون تحول بايدن الإيجابي صوب أوروبا كافيا لإزالة مرارة خبرتها مع ترامب. ولقد سبق للحليفين أن اختلفا مراراً وبقوة، ولكن الخلاف مع ترامب كان له مذاقه المهين ودلالته الكاشفة. تعامل ترامب مع الاتحاد كخصم وبازدراء، وتآمر ضده علنا وعلى رؤوس الإشهاد، الأمر الذي نشر وعيا بمدى إمكانية الانقلاب في السياسة الأمريكية. ولا نظن أنه هناك من قادة أوروبا من كان يتوهم طابع الثبات في تلك السياسة، ولكن الأغلبية كانت ترى وجود مقدسات أو بديهيات لا يمكن لتلك السياسة الخروج عنها، وعلى رأسها التحالف الأطلسي. وها هو ترامب يأتيهم بالخبر اليقين. ومن شأن وعي من هذا النمط أن يؤجج القوى الدافعة لتحرير السياسة الخرجية من عراقيلها، سواء بمعني سبل التغلب على غياب الإجماع السياسي أو سبل تخطى القيود المؤسسية.

ولكن هناك مصدر ثالث يتعلق بطبيعة التحديات الدولية سيعمل في نفس الاتجاه. يعي طرفا التحالف الأطلسي أن طبيعة وشمول التحدي الصيني يتطلب إطلاق طاقات المواجهة لديهما، وهو أمر يستلزم تنوع أساليب المواجهة والقدرة على المبادرة الذاتية ومراعاة فروق المصالح مع الصين وخصوصية العلاقات معها بقدر ما يستلزم الوحدة بين الحليفين، وكل هذا سيتوفر في أفضل شروطه حال تمتع السياسات الأوربية بالقدر الضروري من الاستقلالية. ويعي الطرفان أن التحديات الكبرى في المجال العالمي مثل المناخ والبيئة والهجرات الدولية والإرهاب العالمي والأمن السيبرناطيقى، تتسم بالطابع العابر للدول القومية وتستلزم تعاوناً دولياً واسعا بين إرادات مستقلة وتعديل مستمر لاستراتيجيات المواجهة عبر إعادة التفاوض، وأن وجود قيادة مهيمنة على العمل الدولي هي آخر ما تتطلبه، وكل هذا يصب لصالح تكون سياسة خارجية اتحادية مستقلة. غير أن هناك عوامل أخرى ترجح كفة الاستقلالية الأوروبية في التعامل مع تلك المشاكل. فلديها الكثير من رأس المال المعرفي، ولها نجاحاتها المشهود بها في مواجهاتها المحلية، وتمتلك تصورات صلبة ومختبرة للمواجهة العالمية.