أفكار وآراء

التصالح مع المجتمع

27 ديسمبر 2020
27 ديسمبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

تنبئ العلاقة مع الآخر عن كثير من التباينات، والاختلافات، فوق أنها موسومة بعدم الثبات، حيث إنها تخضع للكثير من الظروف والمواقف التي يرى فيها كل طرف على أن له الحق في مراجعة هذه العلاقة أو تلك، ومن هنا كما أعتقد تأتي مجموعة النظم والقوانين التي تنظم مجموعة التعاقدات التي تبرم بين الأطراف المختلفة على مستوى الأفراد، أو الجماعات، أو المجتمع ككل مع النظام السياسي، مع تحييد الـ»عقد الاجتماعي» وهذه من الأمور المسلم بها في أي تجمع بشري، ولذلك تقتضي الحقيقة الثقافية للمجتمع أن يكون هناك وعي عميق لماهية المصالح المشتركة و»الروابط التطوعية» بين أفراده من ناحية، وبين النظام السياسي من ناحية ثانية، وهذه الشراكة هي التي يجب أن تعزز العلاقة بين الطرفين لما فيه المصلحة العليا للوطن ككل، وبالتالي متى فهمت هذه الـ»ثيمة» التشاركية بين الطرفين، أثر ذلك على فهم أكثر لهذه العلاقة، وأوجد لها مناخات كثيرة ومتنوعة، من شأنها أن تبسط أردية خضراء للحوار الدائم، والعلاقة الصحية السليمة، والعمل في أرضية مشتركة مخضبة بالود، والتعاون، والتكامل، فالنظام السياسي؛ في حقيقته، هو مجموعة مصغرة من مجاميع المجتمع الكبير ليس إلا؛ ولهذا تعتبر نظرة دونية جدا، عندما ينظر إلى النظام السياسي من قبل المجتمع على أنه مجموعة منعزلة في زاوية خاصة، وموسومة بـ «لواكن» كثيرة، لأنها فقط مستقوية بقوة القرار الملزم، والإلزامية هنا يفترض أن ينظر إليها على أنها السياج الذي يحافظ على الكينونة الكبرى للمجتمع، ويحد من مجموعة الانفلاتات التي قد تحدث بقصد أو بغير قصد.

ولأن الحياة ليست جامدة، ولأن الشخوص ليسوا دائمين، ولأن الظروف دائما متقبلة، ولأن الواقع يفرض بفعل حركة الكون استحقاقات متجددة، ويتطلب أدوات مختلفة، يبقى من الحكمة البحث والتقصي عن حلول تتواكب ومتطلبات التغيير الفارضة نفسها بحكم الحاجة، ربما؛ قد يصاحب ذلك الكثير مما لا يتوافق مع تقييم الجمهور العريض لمختلف التغيرات، وهذا أمر متوقع، ولكن يبقى لمن يملك الرؤية الذاهبة إلى بناء الغد بمعطيات أفضل الحق في اتخاذ ما يراه معززا لهذه المعطيات، خدمة لهذا الجمهور العريض الذي تخونه - في كثير من الأحيان - المعلومة غير الصحيحة، فلا يقف على حقائق الأمور، إلا بعد حين من الزمان.

يردد الناس وبصورة مستمرة مقولة شائعة: «رضا الناس غاية لا تدرك» ولأن هذا الرضا لا يدرك، يبقى؛ ليس من الصعب فقط، ولكن من المستحيل الوصول إليه وإنهاء عمله من الوجود، وهذا مرده إلى أن الناس حالة متغيرة، لا تستقر على صورة واحدة ثابتة، فكما هو أحدنا اليوم ناقد، هو غدا منتقد، وكما هو اليوم من ذوي الحاجة والفاقة، هو غدا من ذوي النفوذ والغنى، والعكس صحيح أيضا، وانطلاقا من هذه الحالات المتغيرة عند كل واحد منا، على وجه التقريب؛ وغير مستقرة، تتبدل المواقف، وتختلف الرؤى، وتأخذ النظرة، أو التقييم مواقف مختلفة، ومتباينة كذلك، فـ»هذه الدنيا من حالاتها تخفض العالي: وترفع من سفل».

من حديث طويل أجراه الزميل عاصم الشيدي، مع المفكر المصري، فهمي هويدي، يقول هويدي: «إذا عرفنا أن هناك غضبا كامنا في الداخل، وهناك شعور أن السلطة تعمل لحسابها، وأحزاب وقبائل وطوائف وعائلات لا تعمل لصالح الشعوب، فإن المخرج يبدأ بفكرة بسيطة جدا وهي المصالحة بين السلطة والشعب، لا أريد أن أتحدث عن عقد اجتماعي ولكن لا بد من الانتباه أن المشكلة في الداخل، ولذلك لا حل إلا بمحاولة التصالح مع الداخل، والتصالح لا يكون إلا من خلال التحري. نتحرى: لماذا يزداد أصحاب السلطة في الغنى والشعب في الفقر؟ (...) يحتاج الأمر إلى تصالح مع المجتمع، والمجتمع يريد أن يعيش فقط، لا يريد أن ينقلب، وهذا الانقلاب والغضب تعبير عن قهر مختزن» - جريدة عمان؛ العدد (14065) 5/ 12/ 2019م -.

لعله من المعيقات الكبيرة لمشروعات التنمية هي حالة التضاد والتململ هذه التي يكون عليها الناس أو الجمهور المتلقي لها، وبالتالي فمتى توقفت رؤية صاحب القرار على هذه الصورة، أو وقوعها في هذا المناخ الـ»متموضع» على ذاته بتصلب المواقف، فإنه يبقى من الصعوبة بمكان تعزيز هذه المشروعات، والبناء على تراكمها المنجز في كل مرحلة زمنية، وهذا التضاد والتململ عائد بالدرجة الأولى إلى القصور المعرفي، وضبابية الرؤية عند هذا المتلقي، وبالتالي يتبنى الأحكام المسبقة، ويظل ينتصر إلى الصور النمطية، دون أن يقدم حلولا حيوية تساعد صاحب القرار، ودعم خططه وبرامجه، وهذه حالة معايشة في كل التجارب السياسية، ولا يمكن إنكارها أو تخطيها، وعلى ما يبدو أكثر أن ما يثير القلاقل في كل المجتمعات، ويؤجج المواقف، ويعلي من أصوات النقد؛ وقد يصل إلى التجريح هو المسافة الفاصلة بين الغنى والفقر، وبين التفاوت الطبقي بين الأفراد، وهذا التفاوت ليس مقصورا فقط على حالة الغنى والفقر، ولكن له أوجه كثيرة، منها تلك الـ»وسوسة» المختمرة في الصدور، وهي التي لا يمكن لجمها لا بالمال، ولا بالجاه، ولا بالمنصب، حيث تظل حاضرة في كل المواقف والحالات، وكلما أنجزت شيئا مقدرا يستحق النظر والإشادة، فإذا بها تذهب إلى الأبعد من ذلك «ولا يملأ فم بني آدم إلا التراب» وهذه حاجة فطرية لا يمكن إغناؤها بأي مُقوّم مادي بحت، وبالتالي إنهاء عملها إلى الأبد.

يقول الدكتور الحبيب استاتي زين الدين - أستاذ باحث من المغرب - في مقال نشرته جريدة عمان في العدد (14074) بتاريخ 14/ 12/ 2019م، ما نصه: «إذ كان لتحالف المال والاقتصاد والسلطة نتائج وخيمة على تعميق التفاوت بين مكونات المجتمع: نخبة اقتصادية تستحوذ على معظم خيرات البلاد، وبنت ثروتها بفضل اقتصاد الريع، مقابل تزايد الفئات الشعبية التي تعاني من الفقر والبطالة، وما رافقهما من اتساع فجوة اللامساواة بين الأغنياء والفقراء في مجموعة من البلدان العربية، ولا سيما بعد التخلي عن مكتسبات دولة الرعاية الاجتماعية، والتأثر برياح التغيرات الاقتصادية العالمية خلال الربع الأخير من القرن الماضي. وعلى الرغم من النتائج التي تحققت نتيجة تطبيق معيار نسبة النمو الذي اتبعته الدول العربية، استجابة لإيحاء أو إملاء المؤسسات المالية والاقتصادية والدولية - تسجل انهيارا شاملا لنماذج التنمية التي فرضتها المحافل الدولية، وهذا الانهيار هو المستديم وليس التنمية، إذ لم تنعكس الأرقام «الوردية» لهذا النمو على المستوى المعيشي للمواطنين، بسبب عدم مراعاة البعد الاجتماعي للنمو، بما يفيد أن منافع النمو لم توزع توزيعا متكافئا، ولم تصاحبها عملية إعادة توزيع للدخل العام بطريقة سليمة وعادلة، الأمر الذي قاد إلى تفشي ظاهرة الفساد التي باتت تتشكل في منظومة اجتماعية متكاملة»- انتهى النص -.

تأتي البرلمانات «السلطة التشريعية» وهي المؤسسات المعبرة عن إرادة الشعوب، لتجسر الهوة القائمة بين الشعب، والمؤسسة الرسمية، لتعمل على تجفيف منابع الاختلافات البينية بينهما، وذلك انعكاسا بما تملكه من أدوات برلمانية عديدة، تستطيع من خلالها أن تقف على الكثير من الحقائق والرؤى، والمعلومات، التي تملكها السلطة التنفيذية، على سبيل المثال؛ فوق أنها؛ ومن خلال اختصاصاتها الأصيلة؛ تستطيع أن ترفع مجموعة المقترحات، والطلبات، والوقوف على الكثير من ما لم تقف عليه السلطة التنفيذية لمعالجته، وتكملة النقص فيه، بالإضافة إلى الدور؛ المفترض، أن تقوم به مؤسسات المجتمع المدني في زواياها التخصصية المحدودة لذات الغاية، فهذه الإجراءات الميكانيكية، من شأنها أن تسجل شيئا من الرضا من قبل المجتمع، إلا أنه، في تجارب دولية كثيرة؛ حتى هذه البرلمانات تخفق في هذا الاتجاه، مما عمق الهوة بين الطرفين.

تأتي اليوم وسائل التواصل الاجتماعي بأدواتها النوعية المختلفة، ليس فقط لتقلل من كلفة التواصل، أو تجسير العلاقة بين المواطن العادي وصاحب القرار، وإنما لتزيد من عمق التعقيد في هذه العلاقة، وذلك من خلال ما تنتجه من مواد؛ هي الأقرب إلى التشنج، والتجريح، وتغييب الحلول عن الوصول إلى أرضية مشتركة من التعاون، والتكامل، وذلك عائد إلى روادها الكثر؛ من ناحية؛ وإلى تشعب الثقافات وتبايناتها المختلفة؛ من ناحية ثانية؛ وإلى البيئات المتباينة لهؤلاء الرواد، وهي البيئات الحاضنة للكثير من الاختلاف، والانتصار للذات، والتعمد في إبداء الآراء الصادمة، وعدم قبول الآخر، و الأكثرها خطورة هي حالة الشك في الطرف الآخر، وعدم الرضا عن أي منجز من شأنه أن يحلحل من بقاء الصور النمطية الراسخة في الأذهان.