1562272
1562272
الثقافة

مرفأ قراءة... من سيرة صاحب القنديل ودرر كناسة الدكان!

26 ديسمبر 2020
26 ديسمبر 2020

إيهاب الملاح -

(1)

يحيى حقي؛‏ هو أديبنا الموهوب العظيم الذي نحتفل بعد أيام قليلة (تحديدا في 7 يناير) بالذكرى الـ 115 لميلاده سنة ‏1905‏ إنه يحيى حقي الذي يصفه المرحوم الناقد الراحل رجاء النقاش بمحبته الصافية «عرفنا يحيى حقي الذي رحل عنا سنة ‏1992‏ رجلًا مسالما لا يعادي ولا يخاصم، ولا يحب لنفسه أن يكون طرفًا في أي صراعات أو معارك،‏ كما أنه كان رجلًا حريصًا على استقلاله،‏ رافضًا كل الرفض للاشتغال بالسياسة والدخول في أمواجها الصعبة العاتية،‏ وقد اتخذ هذا الفنان الكبير لنفسه ما يشبه الشعار لحياته كلها؛ يقول فيه‏:‏ «خليها على الله»،‏ وهو الشعار الذي جعله عنوانًا لقصه حياته أو سيرته الذاتية».

ومع صدور طبعة الأعمال الكاملة التي أعدها وأشرف عليها صديقه وتلميذه المقرب فؤاد دوارة، منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ظهرت كنوز يحيى حقي المخفية من نصوص إبداعية ونقدية، ومذكرات وذكريات وخواطر وسيرة؛ وتعرف جمهور القراء وعشاق الأدب الرفيع (ليس في مصر وحدها وإنما في عموم العالم العربي) على نصوصه الرفيعة:

روايته الفاتنة المنسية «صح النوم»، ومجموعاته الفذة؛ «دماء وطين»، و»أم العواجز»، و»سارق الكحل»، و»الفراش الشاغر»، و»ناس في الظل»، و»عطر الأحباب» و»من باب العشم»، و»تراب الميري».. إلخ

ونظرة سريعة على عناوين حقي في أعماله الكاملة سنرى بأعيننا أن قاموسه الأدبي واللفظي والتعبيري مستمد من أعرق أحياء وبيئات مصر الشعبية؛ حي السيدة زينب التي أطلق عليها رجاء النقاش اسم «الجامعة الشعبية الكبيرة‏»،‏ ومن عناوين كتب يحيى حقي نقرأ «أم العواجز»، وهو لقب يطلقه الناس على السيدة زينب نفسها‏ (رضي الله عنها)،‏ وطبعًا عمله الأشهر «قنديل أم هاشم»، و»أم هاشم» هو لقب آخر يطلقه الناس على السيدة زينب‏،‏ ولا بأس لنتوقف قليلًا عند هذه الرواية لأنها مثلت أشهر أعمال حقي وعُقدته في الوقت ذاته!

(2)

«قنديل أم هاشم»؛ هي الرواية القصيرة التي أصدرها يحيى حقي عام 1943، كان صدورها آنذاك حدثا مدويا ملأت الدنيا وشغلت الناس (وربما ما زالت تشغل المهتمين بتطور الأدب والنقد والرواية العربية في المائة سنة الأخيرة). كانت كالرصاصة التي انطلقت من قلب صاحبها لتصيب قلب قارئها مباشرة، كما وصفها حقي، ووصفها غير واحد من النقاد. ولا أنسى تلك الجملة الافتتاحية لأحد المقالات النقدية التي احتفت بالرواية وصاحبها «أوووه يحيى حقي، ماذا فعلت بنا!»

كانت الرواية الأولى في أدبنا المعاصر التي فتحت الباب لمعالجة تيمة أو موضوع العلاقة بين الشرق والغرب، وما تفرع عنها من ثنائيات عدة؛ بعد ذلك؛ مثل «العلم والدين» و»الحداثة والتقاليد» والأصالة والمعاصرة».. إلخ

ورغم هذا النجاح الباهر والانتشار غير المسبوق لهذا العمل الذي اختير ضمن كل القوائم التي أعدت أو اقترحت لأهم 100 رواية صدرت في العالم العربي في القرن العشرين، فقد كان يحيى حقي يضيق بهذا الأمر كل الضيق! كان يرى أن «قنديل أم هاشم» استحوذت على نصيب الأسد من الاهتمام والنقد على حساب بقية أعماله وإسهاماته الأخرى العديدة؛ في القصة والرواية والمقال والتاريخ والترجمة واللغة.. إلخ

(3)

من عناوين يحيى حقي الأخرى «خليها على الله» و»من فيض الكريم» و»عطر الأحباب» و»من باب العشم» و»كناسة الدكان».. وكل هذه العناوين وثيقة الصلة أيضًا بلغة حي السيدة زينب‏،‏ وهي لغة التواضع والتسامح‏،‏ والفرح بالحياة‏،‏ والتأدب في مخاطبة الناس‏،‏ وفتح الباب بالمحبة والمشاعر الطيبة للتعامل الكريم مع الآخرين.

ولمن لا يعرف حقي من المقبلين على التعرف عليه وكتابته ونصوصه البديعة؛ فإنه سجَّل ما يتصل بوقائع سيرته الذاتية، وذكرياته وخواطره الشخصية في الدائرة ذاتها في ثلاثة نصوص مهمة؛ أولها النص الملحق بالجزء الأول من أعماله الكاملة في فجر القصة المصرية بعنوان «أشجان عضو منتسب»؛ وهي رغم استغراقها صفحات بسيطة فإنها بذاتها تمثل نصا رفيعا في تكثيف واستقطار واعتصار رحلة الحياة كي تُعرض كما الرحيق المصفى بعلاماتها الرئيسية ومحطاتها الجوهرية في سيرة صاحب القنديل.

ثم في كتابين كاملين، منفصلين، صدرا في الأعمال الكاملة؛ أولهما تحت رقم (16) بعنوان «خليها على الله»، وصدر الثاني تحت رقم (28) بعنوان «كناسة الدكان»؛ وهو آخر ما صدر من كتب ليحيى حقي في سلسلة الأعمال الكاملة قبل وفاته بسنوات قليلة.

وسنتوقف عند النصين الأخيرين لأنهما في نظري من أبدع وأجمل نصوص السيرة الذاتية والذكريات الشخصية التي كتبت في الأدب العربي المعاصر عبر سنوات القرن العشرين. والحقيقة فإن أهميتهما عندي لا تقتصر على روعة المضمون ودفق الذكريات والأحداث والوقائع التي انفرد بها حقي عن حياته منذ ميلاده في العام 1905 وحتى سنوات شيخوخته الهادئة الوديعة، ورحيله الهادئ والأكثر وداعة في العام 1992.

(4)

يمكنك أن تعرف أن حقي تأثر تأثرا شديدا بكل ما مرّ به في حياته؛ من حيث النشأة والأحداث الصغيرة والكبيرة التي انطبعت على نفسه الشفافة وروحه النقية الحساسة؛ كان خجولا وحييا وذا ذوق رفيع للغاية، وما كان لهذه الصفات أن تجتمع معا في شخص إنسان ما إلا إذا كان هو نفسه مركبا من خلايا شديدة الحساسية ومرهفة الاستقبال؛ كانت حياة حقي سلسلة متصلة من الاستجابات الحساسة لدوافع وأسباب أنتجت لنا في النهاية هذا الإبداع الرفيع الراقي الذي توقف أمامه النقاد والدراسون والباحثون بكثير من الاحترام والانبهار والتقدير.

من بين نصوص «كناسة الدكان»؛ اخترت هذا النص البديع الذي يعبر تماما عما قصدته من السطور السابقة؛ يعرض النص بوضوح لـ متى وكيف بدأ اهتمام حقي بالإبداع القصصي ونما شغفه في تلك الدائرة؛ يقول:

«أحمد الله تعالى مرارا وتكرارا أنني ولدت في أسرة تقتني الكتب وتهتم بالأدب والشعر وتهتم أيضًا بالكلمة الصحيحة في مكانها الصحيح، وقد وجدت بعض أفراد أسرتنا يفتعلون المعجزات عن طريق كتابة رسائل العتاب لمجرد أنهم يريدون أن يبدعوا في هذه الرسائل التي تأخذ شكلًا أدبيًا جميلًا، وقد كانت والدتي تقرأ وتكتب، وكنا نقرأ ديوان المتنبي وكل ما نصل إليه من كتب، وقصائد شوقي كانت تدخل بيتنا وكثير منها كنا نحفظه».

ستكون بداية حقي مبكرة للغاية مع القلم «وقد بدأت محاولات في الكتابة ربما في أواخر مرحلة دراستي الثانوية أو بداية دراستي للحقوق، ولكني لم أحاول كتابة الشعر؛ لأن الشعر في الحقيقة بالنسبة لي هو قمة فنون القول، ولا تقاس عظمته بأي فن آخر، وأنا مستعد لأن أضع القصة أو الرواية في كيس وألقيها في البحر فتأني شعرًا. لأن الشعر هو خلاصة التراث، وهو الفن الحقيقي». ويطرح حقي على نفسه السؤال: لماذا لم أكتب الشعر ولم أكتب المسرحية؟

يجيب: يجب أن يعترف كل كاتب بحدود مقدرته فمثلا نحن نعترف ونزهو بمقدرة توفيق الحكيم في الحوار، وهو يقول هذا، أما أنا فليس عندي موهبة الحوار. إنني ألتزم ما قدرني الله عليه وهو التأمل والوصف، وأكبر همي هو وصف الأشخاص والأشياء. وأستعين في هذا الوصف بحواسي الخمس جميعها لأكمل الصورة، وقراءة قصصي تتضح فيها حاسة الشم بدرجة كبيرة، وهذا غير مقصود، وأنا عند الكتابة لا أحس أنني أتخذ من ذلك وسيلة، ولكن لمجرد الصدق. فعندما أتجول مثلا في الغورية، هل يمكن أن أصف نفسي وأنا أسير في الغورية دون أن أتناول رائحة الحي؟ وهذا يحدث بالنسبة للقصص التي تدور في الأماكن التي تتطلب استخدام حاسة الشم فيها.

(5)

وكان انتقاله من «قاهرة عشرينيات القرن الماضي» «الجميلة» إلى منفلوط وقرى الصعيد ـ بفقرها وسلوكياتها ومرافقها وخدماتها الشديدة التواضع ـ بمثابة الصدمة التي هزت أعماقه، ونبهته إلى حقيقة وضع الأغلبية الساحقة من بني وطنه وزودته، وهو الوطني الغيور، بمادة غزيرة لموضوعات أعماله فيما بعد. استغرق كتاب «خليها على الله» هذه التجربة الغنية في حياته وسجل عبر صفحاته ما اعتبره كثير من الكتاب والنقاد أجمل وأبدع نصوصه الذاتية على الإطلاق.