أفكار وآراء

الإصلاح الفكري والثقافي مطلب مستمر

23 ديسمبر 2020
23 ديسمبر 2020

عبد الله العليان -

لا شك أن الحديث عن مسارات الإصلاح والتجديد، حديث لا يتوقف، في واقعنا العربي والإسلامي، باعتباره قضية محورية ودائمة لتجديد الأفكار والرؤى، عندما تبدأ الكثير من القضايا القائمة تفقد صلاحيتها مع المستجدات والتطورات والتحولات الفكرية، والتي تحتاجها الأمة في حاضرها ومستقبلها، وهذا الأمر يتعلق بحركة الناس في تجديد رؤاهم وفكرهم عن الوقوع في الجمود والتقوقع عن الحركة الدائبة، فيما يتعلق بنقد الذات وتقويمها.. لا بجلدها ونسف مقوماتها، ومن هؤلاء الذين اهتموا بمسألة الإصلاح الفكري والديني في الأمة، الإمام محمد عبده، وكان له نشاط كبير لإخراج واقع الأمة من التخلف الذي رزحت تحته لعدة قرون مضت، لأسباب عديدة. كان الإمام محمد عبده ـ وغيره من المصلحين ـ منذ أوائل القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من الذين كان لهم إسهام بارز ومؤثر في دعوتهم للنهضة واليقظة لتجاوز ما تعيشه الأمة في تلك الظروف الصعبة.

فندما رأوا تكالب الدول الاستعمارية لاحتلال الدول العربية والإسلامية، وأدركوا مخاطر هذا الاحتلال على أوطانهم، وكذلك وجدوا الفارق الكبير عندما زار بعضهم أوروبا، من حيث بروز النهضة العلمية والفكرية والصناعية في الغرب، مما جعلهم ـ ومنهم الشيخ محمد عبده ـ ينطلقون للإصلاح في مواقعهم بتحريك الوعي الديني والفكري والتربوي، وطرحوا قضية التجديد، كأحد أهم الوسائل الهامة للخروج من حالة التخلف والتراجع الفكري والسياسي.

وفي الوقت نفسه العمل على طرد الاستعمار الجاثم على الأرض العربية، ومراكمته للتخلف القائم، ومحاربته يقظة الأمة من واقعها المتردي على كل المستويات، من خلال الطرق العديدة التي صاغها الاستعمار من خلال الأفكار التي تساهم في انخلاع الأمة من ذاتها وهويتها وقيمها والتي بثها الاحتلال من خلال المستشرقين الغربيين الذي سبقوا الحملة الاستعمارية وبعدها، ونشطوا في الكثير من الجامعات والمؤسسات العلمية والفكرية في مصر وفي غيرها من البلاد العربية، وأشاعوا أن التخلف في الفكر العربي الإسلامي هو بنية ساكنة، ولا خروج منها، أنه لا يمكن زحزحة هذا الواقع، إلا باتباع الغرب والاقتداء به وتقليده في كل شيء، وهذا الحل هو المخرج من واقعهم.

ولا شك أن بعض هذه التأثيرات الفكرية التي نشرها المستشرقون، وقع في حبالها العديد من المثقفين العرب والمسلمين، الذي انبهروا بهذه الآراء وبالنهضة الغربية وقياسا على الواقع الذي يعيشه الغرب، من نهضة علمية وصناعية وتخطيطية، دون أن يتم تقييم تلك الظروف والملابسات التي كانت سبباً في هذا الواقع، خاصة ممن درس في الغرب في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

كانت الرؤية الإصلاحية التي طرحها الإمام محمد عبده رؤية مهمة صائبة، وأدركت حقيقة ما تعيشه الأمة، فلم تنطلق هذه النظرة الثاقبة من فراغ، أو الظهور أو البروز كزعيم للإصلاح، أو أن دعمه للحركة العرابية للاستقلال في مصر، كانت من أجل الاقتراب من قيادة الثورة وتأييدها لمصلحة خاصة، لكنه عاش الظروف نفسها بكل تحدياتها، وفي الواقع الصعب ذاته الذي تعيشه مصر والبلاد العربية القريبة منها آنذاك. فكانت فكرة الإصلاح همه الأكبر وقضيته الأولى، وفي الوقت نفسه الحاجة إلى طرد الاستعمار من بلاده، فلا يمكن أن يتحقق الإصلاح المنشود في ظل وجوده، الذي بلا شك سيكون العائق الأكبر في تعثره وفي إعاقة هذا الإصلاح.

كانت رؤية الإمام محمد عبده، في قضية الإصلاح الديني والفكري في المقام الأول تأخذ الأولوية، مع وجود الكثير من المصاعب في ظل تراكمات عديدة في بلده مصر والبلاد العربية، ومع اختلافه مع طريقة التعاطي مع الثورة العرابية، إلا أنه أيد الثورة ضد الاستعمار للتخلص من نيره وقمعه، ومع فشلها تم سجنه عدة سنوات، وتم نفيه خارج مصر، في العديد من الدول، واستقر في لبنان لعدة سنوات، وعمل فيها مدرساً لفترة في بيروت، بعد ذلك تلقى دعوة من صديقه وأستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، إلى لقائه في باريس في عام 1884، وفي عام 1885، أسسا معاً مجلة (العروة الوثقى)، التي كانت مجلة فكرية إصلاحية للأمة، وكانت لها منحى ثوري ضد الاستعمار في الجانب الأهم من مقالاتها، وداعمة للنهضة والتقدم الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية، ولم تستمر هذه المجلة وتوقفت بعد 18 عدداً منها، بعدما واجهت العديد من الصعوبات والعراقيل بسبب كتاباتها ونقدها للكثير، وبعد عودته الثانية إلى لبنان كتب بعض الدراسات، التي جمعها بعد عودته إلى مصر وسماها (رسالة التوحيد)، كانت مرحلة النفي من مصر مرحلة حراك مهم للإمام محمد عبده، فقد زار العديد من دول العالم، ومنها تواصله مع الثورة المهدية في السودان سراً، كانت هذه الرحلات تتم بالسرية، بحكم نشاطه السياسي والفكري ضد الاستعمار أثناء نفيه.

اختلف الإمام محمد عبده، مع أستاذه جمال الدين الأفغاني، في طريقة التعاطي الذي يراه أجدر بالنجاح للإصلاح في الأمة، سواء بالتربية والتعليم أو إصلاح المؤسسات الدينية والفكر عموماً، لكن الأفغاني كان يركز على التغيير الثوري والسياسي، الذي يراه أسبق من الإصلاح المدني أو التعليمي، ومع اقتناع الإمام محمد عبده برؤية أستاذه العلامة جمال الدين الأفغاني في التغيير السياسي، لكنه يرى أن الظروف قد تعيق -في تلك الظروف- تحقيق هدفه، ومن خلال تجربته في مصر، شعر الإمام محمد عبده، بإحباط كما يقول د. محمد عمارة: «بعد هزيمة الثورة العرابية، وعدم تجاوب بعض الأزهريين، مع رؤيته في التجديد والإصلاح في مؤسسة الأزهر، وبعض المؤسسات الفكرية والدينية، التي لم تتجاوب مع نظرته لنهضة مصر والأمة من خلال الإصلاح الفكري والديني، وانتشال الأمة من الجمود المسيطر على الواقع القائم».

وعلّق الإمام محمد عبده في تقييمه للأفغاني: «إن السيد جمال الدين الأفغاني كان صاحب اقتدار عجيب لو صرفه ووجهه للتعليم والتربية لأفاد الإسلام أكبر فائدة. وقد عرضت عليه حين كنا في باريس أن نترك السياسة ونذهب إلى مكان بعيد عن مراقبة الحكومات ونعلّم ونربي من نختار من التلاميذ على مشربنا.. فلا نمضي عشر سنين إلا ويكون عندما كذا وكذا من التلاميذ الذين يتبعوننا.. فالسيد جمال الدين رجل عالم، وأعرف الناس بالإسلام وحالة المسلمين، وكان قادراً على النفع العظيم بالإفادة والتعليم.. لكنه رأى أن طريق التعليم والتربية بعيدا». عاد الإمام محمد عبده إلى مصر عام 1889، بعد مساعي العديد من الأصدقاء والتلاميذ الذين عرفوا برؤيته الإصلاحية الثاقبة، وحاجة مصر لهذا العالم الجليل، بعد نفيه ما يقارب ست سنوات قضاها في الخارج، لكن الاستعمار البريطاني منعه من الاشتغال بالسياسة أو دخول المؤسسات السياسية كالأحزاب وغيرها، وهذه كانت قناعاته وتوجهاته الفكرية، وهو أنه لا بد من أهمية إصلاح التعليم والتربية وتجديد الفكر والعقل، ليكون التغيير ثاقباً وناضجاً من كل الشوائب والعقبات التي تعترضه في انطلاقته، وهذه كانت رؤيته الثابتة كما يراها، عندما وجد بعض علماء الأزهر ينظرون إلى أفكاره نظرة عدم ارتياح، لكون التغيير يعتبرونه خروجاً على ما اعتادوا عليه من مستقرات وعادات، وتحتاج إلى التجديد الذي هو من صميم الإسلام وفكره، وليست خارجة عليه، ولذلك تم عزله من وظيفة التدريس بدار العلوم، مع أنه من خريجي مؤسسة الأزهر، لكن السبب كانت آراؤه الإصلاحية التي اعتبرت خطرة عليهم وعلى النظام الذي كان تحت الاستعمار وسطوته.

وركز الإمام على الإصلاح الفكري والديني، وترك السياسة والخوض فيها، ولخص رؤيته الإصلاحية كما أرادها فقال: «ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه.. وأنه على هذا الوجه يُعد صديقاً للعلم، باحثاً في أسرار الكون، داعياً إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالباً بالتعويل على أدب النفس وإصلاح العمل. والأمر الثاني: إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء أكان في المخاطبات الرسمية أو في المراسلات بين الناس».

ولا شك أن الإمام محمد عبده، أدرك أهمية التعليم على واقع الأمة، وعلى عقول الأجيال، في البقاء في الجمود الذي اعتبره البعض، وكأنه من الهوية أو القيم الثابتة التي يصعب الخروج عليها، ويرى د. برهان غليون في كتابه (الوعي الذاتي) عن مسألة الإصلاح عند الإمام عبده، أن: «إصلاح التعليم الديني، فأساسه بالنسبة لـ محمدعبده إصلاح الأزهر، فبقاؤه ((متداعيًا على حاله في هذا العصر محال، فهو إما أن يعمر وإما يتم خرابه، وإنني أبذل المستحيل في عمرانه)). ويشمل هذا الإصلاح إصلاح البرامج كما يشمل إصلاح نظم التربية. فلم يعد من المقبول حصر أنظار الطلبة في كتب فقهية مكرورة ولا تجديد فيها. فإن ((الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم ينص عليها في هذه الكتب، فهل نوقف سير العالم لأجل كتبهم؟! هذا لا يستطاع، ولذلك اضطر العوام والحكام إلى ترك الأحكام الشرعية ولجأوا إلى غيرها». لكن مسألة إصلاح الأزهر، كانت مسألة ذات أهمية بالنسبة للإمام، لكونه يخرّج آلافا من الدعاة في كل التخصصات الدينية، وهذه مسألة ليست عادية، بل مهمة، لكن د. غليون يرى أن: «الهدف الأكبر ينبغي أن يكون إصلاح التعليم عمومًا، ولذلك وضع عبده لوائح لإصلاح التعليم في سوريا، وفي الدولة العثمانية إضافة إلى لوائح التعليم الديني والرسمي في مصر». ورأى في التعليم القائم ميدان منافسة على الحصول على الشهادات لا وسيلة لتكوين الطلبة ليكونوا رجالًا صالحين يحسنون القيام بالعمل الذي يفوض إليهم في الحكومة أو غيرها. فليس في المدارس الحكومية شيء من المعارف الحقيقية ولا من التربية الصحيحة وإن كان فيها شيء من ذلك فإن طريقة التعليم القائمة على الحفظ تفسد ثمراته.. وللحديث بقية.